المسجد الأقصى في العقلية الصـــهيونية ومسائل الفرص التاريخية (19)
صالح لطفي- باحث ومحلل سياسي
في ظلال حظر الحركة الإسلامية
كان حظر الحركة الإسلامية عام 2015 فرصة تاريخية سنحت للمؤسسة الإسرائيلية، لم تتوان عن استغلالها لما له من أثر مباشر متعلق بسياسات المؤسسة اتجاه القدس والمسجد الأقصى والداخل الفلسطيني، فقد كانت الحركة في هذه المحاور رقما صعبا عزّز من متواليات الثبات والبقاء على أساس من منظومة عقدية- فكرية سياسية- إجرائية تركت آثارها في تخلقات هويات متجددة للفلسطينيين قاربوا فيها مجموعة من القضايا المشكّلة للهويات الفردية والجماعية، ويكفي في هذا السياق الإشارة إلى أن قضية الأقصى راكمت من قضية شرعية-دينية-عقدية قضية وطنية آمن بها الكل الفلسطيني في الداخل الفلسطيني بكل مركباته ومكوناته.
يعتبر حظر الحركة الإسلامية في السابع عشر من نوفمبر/ تشرين ثاني من عام 2015 أحد أهم الفرص التاريخية التي انتهزتها المؤسسة الإسرائيلية بعدئذ انتشرت فوبيا الإسلام في الغرب والشرق واتخذت هذه الفوبيا شماعة للقضاء على التيار الإسلامي الإصلاحي ممثلا بالإخوان المسلمين، ومن قاربهم في الفكر والحركة، وتعاظمت هذه السياسات بعد الإطاحة بالرئيس الشهيد محمد مرسي، ممثل الاخوان المسلمين الذي فاز برئاسة مصر، وقد تكالبت على إسقاطه دول عربية وصليبية وإسرائيل في المقدمة منها.
في ظل هذه الحالة والتخويف من تنظيم الدولة وسياساته وإجراءاته وبوائقه بين المسلمين تحديدا، فقد مُهّدت الطريق لضرب الإسلاميين، وكان أن انتهزت المؤسسة الإسرائيلية الفرصة لضرب الحركة الإسلامية وإخراجها عن القانون وتجريمها وتجريم العديد من قياداتها ووضعها بعد ذلك على قوائم قانون الإرهاب.
ثمة صلة وثيقة بين حظر الحركة الإسلامية ونشاطاتها في المسجد الأقصى، حيث نقلت همومه من المحلية الى العالمية وتحوّلت قضيته من جزء من قضية فلسطينية إلى همّ إسلامي عالمي، واستحال خلال أقل من عشريتين إلى جزء من مركبات الهوية الإسلامية المُحدَثَةُ بعد سقوط الخلافة الإسلامية وظهور الاخوان المسلمين كأحد تداعيات فقدان الامة مشروعها السياسي ممثلا بالخلافة الإسلامية، وبذلك تكون الحركة الإسلامية في الداخل الفلسطيني قد وضعت أهم بصمات بناء الهوية الجمعية للمشروع الإسلامي بكل مركباته المتعلقة بالصيرورة ذات الصلة بالمسجد الأقصى ومستقبل الاحداث المتعلقة به، سواء في سياقاته السياسية العقدية، أو العكس، فضلا عن دورها الطليعي في إعمار وعمران المسجد الأقصى، وهو ما حرّك سياسات اليمين الإسرائيلي الذي اتخذ ولا يزال يتخذ من موضوعة الأقصى رافعة لتعزيز مكانته السياسة ومطالبه، التي لا تتوقف بالصلاة فيه والسيطرة عليه، بغض النظر عن اختلافهم في الأدوات والوسائل، وقد رامت الحركة الإسلامية من وراء نشاطاتها الحفاظ على هوية المسجد الإسلامية.
حظر الحركة الإسلامية كان فرصة المؤسسة الإسرائيلية التي لا تعوض في ظل تهيئة الظرف الإقليمي والدولي، وكانت قد أعدّت العديد من المبررات التي تشرعن عمليتها تلك. في هذا السياق يقول أستاذ العلوم السياسية في جامعة بار- ايلان في كتابه “إسرائيل الى أين” (مِديِنات يسرائيل ليئان) الصادر عن دار ماجنس للنشر، الجامعة العبرية عام 2019: “في الواقع فهناك قسم من الجمهور العربي- والحديث موجه أساسا إلى الحركة الإسلامية الشمالية بقيادة الشيخ رائد صلاح- لا يريدون إسرائيل مطلقا ويعملون على تأسيس خلافة إسلامية مركزها جبل الهيكل- المسجد الأقصى”.(ص21)، فقد ربطت القيادات الفكرية الصهيونية والصهيو-دينية المسجد بالحركة الإسلامية وبحدث سياسي- استراتيجي مستقبلي يرتبط جذريا بحركة التاريخ راهنها ومستقبلها القائم، بناء على منظورهم الديني-السياسي على أساس من المسيانية الدينية المرتبطة بالمسيح، وهي رؤية سياسية عقدية تتعلق بأحداث المستقبل والتي ترى بأرض فلسطين دائرة الحدث. وبالتالي فقد انضم إلى هذه الجوقة المسيانية المسيحية الانجيلية التي فازت في الانتخابات الامريكية عام 2016 وقدمت ترامب ليقوم بالمهام المُقربة للمعتقدات التي تؤمن بها هذه المجموعة من المسيحيين الصهاينة اليمين الإسرائيلي مستغلا هذه التصورات والرؤى التي في جوهرها تهدد كيانيته ووجوده، وانضم إليها بناء على منطق المصالح أنظمة رجعية عربية. وبذلك نرى كيفية تضافر الجهد الإقليمي والدولي والإسرائيلي لقنص الفرص المترتبة على تضاعيف الاحداث، وهذا درس من الدروس الواجب أن يدرسها الإسلاميون والقوى الخيّرة في الأمة حتى لا يُقال ثانية أُكلت يوم أُكِلَ الثور الأبيض.
ملاحقة الشيخ رائد صلاح
لا يمكن لمحلل منصف أن يُزايلَ على أن الشيخ صلاح تحول الى أيقونة إسلامية عربية فلسطينية في الدفاع عن القدس والمسجد الأقصى المبارك، وأنَّ الرجل يدفع أثمانا باهظة تنحت من عمره وجسده، والمؤسسة الإسرائيلية انتهزت الفرصة التي أشرت إليها سابقا ليس للإجهاز على الحركة الإسلامية التي هي في الأساس حركة مدنية-عمرانية-تربوية-سياسية، لم تتخذ سبيل القوة والعضد والساعد نهجا لإدراكها الوضعيات التي يعيشها مجتمعنا في الداخل الفلسطيني.
استغلت المؤسسة الفرصة التاريخية التي تجلّت في أعقاب ردة الأنظمة الرجعية ومن لحق بها من العلمانيين والصوفيين والجاميين، وضربت كما العرب ضربوا بيد من حديد ليس فقط الحركة الإسلامية، بل وعديد قياداتها عبر سياسات التجريف والقوة المُغطاة بقفازاتها الحريرية، بيد أنَّ الشيخ رائد صلاح كانت يد السلطة عليه أكثر تغولا وبطشا، ولفقت له العديد من القضايا في مهزلة فضحت السلكين القضائي والسياسي في تلكم المؤسسة، بيدَّ أنَّ المؤسسة الإسرائيلية وعقيدتها في استغلال الفرص الناجمة عن صيرورات بعض الاحداث، دفعتها إلى ملاحقته والزجّ به في أتون معتقلاتها، ضاربة بعرض الحائط كل ما له صلة بالأخلاق والقضاء والعدالة.
بين الشيخ صلاح والمؤسسة الإسرائيلية معركة إرادات، وهذه المعركة تتعلق بالحالتين الفلسطينية والعربية والتداعيات النازل عليها من الظرفين الإقليمي والدولي، وما يتداخل فيهما ومعهما من قضايا، فضلا عن ارتباطاتها المصلحية- السياسية التي قد تتغير مع تغير القوى الإقليمية والظروف الموضوعية لمعادلات تلكم القوى.
الشيخ رائد صلاح، يعبّر عن المشروع الإسلامي والتحرر والتحرير، والمؤسسة الإسرائيلية تعبّر وتمثل المشروع الاستعماري الغربي بشقيه الصليبي الدهراني (العلماني) والديني بتفرعاته المسيحية المسيانية.