أ. يوسف كيال
تصادف في الثاني من تشرين الثاني الحالي ذكرى مرور 103 سنوات على صدور وعد بلفور – الرسالة التي وجهها وزير خارجية بريطانيا بلفور إلى اللورد روتشيلد أحد وجهاء المجتمع اليهودي في ذلك والوقت وتتضمن وعدًا(إعلانًا) باسم حكومة بريطانيا لليهود بتسهيل إقامة وطن لهم على أرض فلسطين.
وقد سبق هذا التاريخ (2/11/1917) مداولات سرية بدأت سنة 1915 في أروقة السياسة البريطانية لهذا الوعد كجزء من صفقة تقسيم أملاك الدولة العثمانية في حال انهيارها، وكذلك سبقته اتفاقية سايكس بيكو المشؤومة.
هذا الجرم التاريخي الذي ارتكبته حكومة بريطانيا بإعطائها ما لا تملك لمن لا يستحق، مهد وشرعن للمؤسسة الإسرائيلية وللعصابات الصهيونية ممارسات الظلم بحق الشعب الفلسطيني بكافة أشكاله مخلفة عواقب كارثية لا يزال شعبنا يعانيها حتى يومنا هذا.
فبلفور – هذا الذي عرف آنذاك بإعجابه ومحبته لوايزمن وصل الى منصبه بجهود تنفذ اللوبي الصهيوني بقيادة وزير الصحة اليهودي آنذاك هيربارت صموئيل من أجل تنفيذ اجندة الحركة الصهيونية الاستعمارية – رحل هذا الرجل وهو يحمل في رقبته تبعات هذا الظلم على شعبنا لأكثر من قرن من الزمن.
بعد إصدار هذا الوعد بدأ مسلسل الاحتلال والحرب ضد شعبنا وتطبيق الأهداف الإجرامية للحركة الصهيونية بتفريغ أرض فلسطين من أهلها فكان ارتكاب المجازر على يد العصابات وهدم أكثر من 500 بلدة فلسطينية وتشريد أعداد هائلة من أبناء شعبنا، وهذا كله تحت حماية أصحاب الوعد الذي، ولسخرية الأمر تخلل بين سطوره شرط ضمان حقوق وحرية أهل الديار من غير اليهود.
إنّ وعد بلفور لا يمثل فقط الوجه القبيح للحكومة البريطانية ولكنه، أيضا، مهّد للظلم والعداء لشعبنا خاصة والأمة العربية عامة من قبل دول الغرب بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية وقد تجسدت هذه العقلية الاستعمارية والانحطاط في الأخلاق السياسية لأصحاب القرار في الغرب في التمادي بدعم المؤسسة الاحتلالية لفلسطين من حيث الاعتراف بها، دعمها في المحافل الدولية، التغطية على جرائمها، ضمان تفوقها على محيطها العربي والتعامل بلا مبالاة مع نكبة الشعب الفلسطيني ولا يخفى أن التغول في البطش والتمادي في الاحتلال لم يكن سببه فقط الغطاء الغربي بل أيضًا وجود الأنظمة العربية المصطنعة من الغرب لتكون عاملًا حاسمًا في كبت الشعوب ووسيلة لتمرير الغرب سياساته الاستعمارية على عالمنا العربي وقد ساعدت هذه الاعتبارات الكيان المحتل في مصادرة المزيد من الأراضي وتثبيت الأمر الواقع والجرأة على احتلال المزيد من الأراضي، فتم احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة والجولان وسيناء وما تبقى من القدس الشريف واحتلال جنوب لبنان لاحقًا.
إنّ انحطاط الأداء السياسي للأنظمة العربية وغياب قيادة وطنية مخلصة للثوابت وتهميش دور الشعوب أفرزت سيناريوهات جديدة للغرب وخاصة للولايات المتحدة متناغمةً مع الأهداف الاحتلالية للمؤسسة الإسرائيلية.
هذه السيناريوهات هدفت إلى تثبيت الأنظمة العميلة وتغيير واقع الوطن الفلسطيني والانتقال بالتالي من مرحلة مداولات لحل القضية الفلسطينية إلى واقع جديد تفقد فيه القيادة الفلسطينية دورها المطلوب المتوقع لإنهاء الاحتلال ليكون مجرد أداء وظيفي، وتركيع الأنظمة العربية أمام أبوب البيت الأبيض من خلال الانتقال من تسمية العلاقة بالعداء إلى تطبيع مع الكيان وخلق مصطلحات دخيلة جديدة على شعوب المنطقة مثل عدو مشترك ومصالح مشتركة وسلام مقابل سلام.
وجاءت صفقة القرن متممة للوعد المشؤوم ومكملة لمحاولة تحقيق حلم المشروع الصهيوني الاحتلالي في تصفية القضية الفلسطينية، وتمرير أجندة الولايات المتحدة بجعل المؤسسة الحاكمة الإسرائيلية جزءًا من منظومة إقليمية تواجه عدوًا مصطنعًا، ليمهد بذلك وعد بلفور الطريقَ لولادة وطن قومي لليهود على أرض فلسطين.
هذا التحول التاريخي الذي لا يستوعبه عقل يكاد يكون واقعًا بشعًا ومرًا، ولكنه حتمًا لن يدوم ما دام في هذا الشعب الذي ذاق كل هذا الظلم من يتمسك بالثوابت ويؤمن أن الظلم حتمًا إلى زوال.