“أوسلو”.. مشروع مأزوم وطريق مسدود (5)
تبعات وفاة عرفات على حركة "فتح" والسلطة الفلسطينية (أ)
تبعات وفاة عرفات على حركة “فتح” والسلطة الفلسطينية (أ)
ساهر غزاوي
كما ذكرنا في المقالات السابقة، فإنه بموجب اتفاق “أوسلو” الذي وقّعه الاحتلال الإسرائيلي ومنظمة التحرير الفلسطينية عام 1993، تكونت السلطة الوطنية الفلسطينية لتكون أداة مؤقتة للحكم الذاتي للفلسطينيين القاطنين في الضفة الغربية وقطاع غزة. وفي 1 يوليو/تموز 1994، عاد ياسر عرفات مع أفراد القيادة الفلسطينية، إلى الأراضي التي أعلنت عليها السلطة، وتولى رئاسة السلطة الفلسطينية. وبموجب الاتفاق، أعلن عرفات، بوصفه رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، الاعتراف رسميا بإسرائيل، في رسالة رسمية إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي حينها، إسحق رابين. وعلى أثرها اصطدم عرفات بحركتي “حماس” والجهاد الإسلامي الفلسطينيتين، اللتين عارضتا اتفاقيات السلام مع الاحتلال الإسرائيلي، وعلى إثر ذلك اعتقلت الأجهزة الأمنية التابعة له المئات من أفرادهما.
في أواخر أكتوبر/تشرين الأول 2004، وتحت الحصار الإسرائيلي، تدهورت الحالة الصحية لرئيس السلطة الفلسطينية، ورسميا، أعلنت السلطة الفلسطينية، في 11 نوفمبر/تشرين الثاني 2004، وفاة عرفات. وعقب وفاة الرئيس عرفات، وذلك بالاعتماد على نص المادة 37 من القانون الأساسي الفلسطيني، التي تقول: “إذا شغر مركز رئيس السلطة الوطنية في أي من الحالات السابقة (الوفاة، الاستقالة، فقد الاهلية القانونية) يتولى رئيس المجلس التشريعي الفلسطيني مهام رئاسة السلطة الوطنية مؤقتاً لمـدة لا تزيد عن ستين يوماً تجرى خلالها انتخابات حرة ومباشرة لانتخاب رئيس جديد وفقاً لقانون الانتخابات الفلسطيني. وتطبيقا للقانون الفلسطيني الأساسي تولى رئيس المجلس التشريعي الفلسطيني آنذاك روحي فتوح رئاسة السلطة، وباشر بالإعداد للانتخابات الرئاسية، حتى أفرزت في التاسع من يناير 2005 محمود عباس رئيسا، بعدما تولى مناصب عدة أبرزها رئيسا لمجلس الوزراء في مارس من العام 2003، ودوره السياسي البارز في التوصل إلى اتفاق “أوسلو”.
فاقمت وفاة الرئيس عرفات من تدهور شعبية حركة فتح كما ساهمت بتدهور حالة الانقسام والتشرذم الداخلي لها والتي تفردت في تحديد المسار السياسي الفلسطيني، واستخدمت السلطة التي تقودها في أكثر من موقع لفرض رأيها. واعتمدت السلطة الفلسطينية والنظام السياسي الفلسطيني بشكل عام على الكاريزما الشخصية للقيادة الفلسطينية، والتي يصعب معها بناء نظام سياسي مؤسساتي قد يشكل نواة لمشروع دولة. كما واعتمدت مبدأ وحدانية الخيار السياسي، أي أنه لا خيار أمام السلطة الفلسطينية سوى خيار المفاوضات، وعلى الرغم من أن الرئيس الراحل ياسر عرفات استخدم المقاومة أحيانا بشكل تكتيكي وخصوصا قبيل وفاته، إلا أن هذا الأسلوب انتهى مع قدوم الرئيس محمود عباس. وانتقال مظاهر الضعف والترهل والفساد الإداري والمؤسسي في منظمة التحرير إلى السلطة الفلسطينية، وإسهام أموال المانحين بتعميق الفساد (كما سنتحدث في مقالات لاحقه). لاستمراها ضمن دائرة الكيان الوظيفي.
ومع امتناع عدد من التيارات السياسية الفلسطينية المعارضة لاتفاق أوسلو عن المشاركة في الانتخابات سنة 1996، استمرت حالة التفرد الفتحاوي بمعظم دوائر ومؤسسات السلطة الفلسطينية، حيث فاز من مرشحي القوائم لحركة فتح 50 مرشحاً من ضمنهم ثلاثة غير منتمين إلى حركة فتح، ونجح أعضاء حركة فتح من الذين ترشحوا خارج القوائم 21 مرشحا، وبذلك حصلت فتح على 68 مقعد من أصل 88 من مقاعد المجلس التشريعي الفلسطيني لسنة 1996.
بعد وفاة ياسر عرفات أغلقت حقبة طويلة من سياسات فلسطين المعاصرة والذي طغت شخصيته الأكبر من الحياة على إحياء الحركة الوطنية الفلسطينية في فترة ما بعد العام 1948. فقد ترك عرفات بصماته على طراز السلطة، وتشكيلة التنظيم، والهياكل التي استمرت حتى بعد رحيله. إلا أن النظام الذي وضعه عرفات كان أكثر من شخصيته وجاذبيته القيادية أكثر من كونه صنع القرار المؤسسي والجماعي، كان لا بد من تغيير الهيكل السياسي للسلطة الفلسطينية. ولكن، بعد وفاة عرفات، واجهت القيادة الفلسطينية صعوبات في إجراء انتقال سريع في القيادة، وفي انتخاب رئيس جديد لمنظمة التحرير الفلسطينية وترشيح مرشح لفتح لرئاسة السلطة الوطنية الفلسطينية. لذلك فقد واجه النظام السياسي والقيادة الفلسطينية خياراً مختلفاً بشأن تجديد القيادة، حيث كان عرفات هو العمود الفقري لذلك النظام على مدى العقود السابقة. على اعتبار أنه كان زعيم منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الوطنية لفترة طويلة من الزمن، وبالتالي ترك فراغا في القيادة. لكن الصعوبة لم تقتصر على استبدال عرفات في رئاسة اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية أو السلطة الوطنية الفلسطينية أو فتح. كان التحدي الحقيقي هو معالجة التطورات الجديدة التي قد تؤدي إلى مشاركة الفصائل من خارج منظمة التحرير الفلسطينية، وتحديداً حركة حماس، في المشهد السياسي التي أصبح لها حضورا بارزاً في الساحة الوطنية الفلسطينية، حيث حظيت بدعم قوي في الانتخابات التشريعية الفلسطينية عام 2006، وبالتالي أصبحت جزءًا من القيادة الفلسطينية على مستويات مختلفة، بما في ذلك في المجالس المحلية، والمجلس التشريعي الفلسطيني، والحكومة.
(يتبع….)