أخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالاتومضات

شمسنا تشرق وشموسهم تغيب

الشيخ كمال خطيب
مثلما أن الأمم المتحدة أو مؤسساتها المنبثقة عنها قد خصّصت أيامًا في السنة لتكون أيامًا عالمية للاهتمام بشرائح مجتمعية، إما عبر الاهتمام بها وتعويض تقصير لَحِق بهذه الشرائح أو من أجل مزيد من التقدير والاحترام، نظرًا لما كانت تقدمه هذه الشرائح المجتمعية لغيرها. فعلى هذا النهج كان يوم العمال العالمي ويوم المرأة العالمي ويوم الطفل العالمي واليوم العالمي لذوي الاحتياجات الخاصة وغيرها والأمثلة كثيرة.
وعلى هذا النهج كان تخصيص يوم 1/10 من كل عام يومًا للمسنين والشيوخ والذي كان يوصى بأن تستمر فعالياته شهرًا كاملًا من 1/10 حتى1/11. ومع الاحترام والتقدير لهذه اللفتة الانسانية ومع ما أولاه الإسلام من اهتمام وتقدير ولفت انتباه إلى البر والرحمة والقيام بواجب هذه الشريحة المجتمعية، إلا أنني سأذهب باتجاه الحديث ليس عن الأشخاص الذين يشيخون ويهرمون، وإنما عن الأمم التي تشيخ وتهرم.
إن الناموس الكوني والنظام الرباني الذي على هديه ينتقل الإنسان من مرحلة إلى مرحلة، فبعد كونه جنينًا في بطن الأم فإنه يولد طفلًا ثم يكون شابًا ثم يكون كهلًا ثم بعد الكهولة يكون شيخًا، ولكل واحدة من هذه المراحل مظاهر وصفات تلازمها وتميزها كما قال عن ذلك الله سبحانه وتعالى {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً ۚ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} آية 54 من سورة الروم. وكذلك الأمم والحضارات فإن لها ناموسًا كونيًا لا تتجاوزه، فهي التي تكون ضعيفة ثم تقوى وتكون فقيرة ثم تغنى، لكن القوة والغنى والسيادة لن تجعلها أمة خالدة أبدية، وإنما هي الأمم مثل الإنسان تمرض وتضعف وتهزل وتشيخ ثم تذهب وتأتي غيرها {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} آية 140 سورة آل عمران. هذا القانون والناموس جرى على الإغريق واليونان والفرس والروم وعاد وثمود وغيرهم من الأمم التي كانت مضرب الأمثال في الغنى والقوة والجبروت.
لكن الأمم والشعوب غالبًا ما تعود إلى نفس الأخطاء، بل لعلها المقاتِل حين تصاب بالغرور والإعجاب بنفسها مستشعرة أنها عصية على نواميس الكون، وأنها فوق وأكبر وأقوى من أن يصيبها ما أصاب غيرها {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} آية 15 سورة فصلت. ثم لا تلبث أن تدخل في مسار الناموس الكوني العادل حيث الضعف بعد القوة، والفقر بعد الغنى، والذل بعد العز، والتبعية والانقياد بعد القيادة والريادة.
وإن التفاتة ثاقبة إلى التاريخ البعيد والقريب فإنها ستوقفنا وتكشف لنا هذه الحقيقة كما لخصها الإمام الشهيد حسن البنا : “فلقد كانت قيادة العالم قديمًا بيد الشرق من خلال الحضارات الفرعونية والاشورية والفارسية والبابلية والفينيقية والهندية والصينية ثم ما لبثت قيادة العالم أن انتقلت إلى الغرب من خلال الحضارة اليونانية والرومانية ثم عادت وانتقلت إلى الشرق عبر الحضارة الإسلامية العربية، وكل هذا وفق سنن كونية لا تجامل ولا تماري حيث الأمم كانت تشيخ وتمرض فيأتي غيرها”.
فلمّا غفونا نحن المسلمين وغفلنا عن استمرار أداء دورنا، لم يجاملنا الله سبحانه فكان مرضنا وضعفنا فعادت قيادة العالم وانتقلت إلى الغرب من جديد من خلال بريطانيا وفرنسا ولاحقا أمريكا.
ولأن هذا الغرب ممثلًا بأمريكا ومعسكرها قد أفلس في ميادين الروح والأخلاق والقيم، وفرّط في العدل وما هذه الأيام العالمية التي خصصها للمسن والمرأة إلا من مظاهر إفلاسه ومرضه. ولأن هذا الغرب غلّب المصالح على القيم والمادة على الروح والجماد على الإنسان، وراح يكيل بمكيالين في كل شيء حتى بين الأمريكان أنفسهم، وما مظاهر القتل اليومية من السود على يد البيض إلا خير دليل، فإن هذا كله يشير إلى أن سنة الله وناموسه الكوني لن يجاملهم، وأنه حسب استقراء التاريخ فإن قيادة الكون ستعود إلى الشرق من جديد، وليس في الشرق من يملك رسالة ومشروع الإسلام كما قال تعالى {عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} آية 129 سورة الأعراف. {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} آية 105 سورة الأنبياء.
نعم يمكن لأمة الإسلام أن تضعف ولكنها بعد ضعفها تعود أقوى مما كانت عليه، ويمكن لأمة الإسلام أن تمرض ولكنها تشفى بعد مرضها وتبرأ من علّتها، ويمكن لأمة الإسلام أن تتراجع لكنها حتمًا ستعود وتتقدم الصفوف، ويمكن لأمة الإسلام أن تكبوا وتتعثر ولكنها سرعان ما تعود وتنهض من كبوتها وتنفض عنها غبار سقوطها ثم تمضي من جديد.
إن خطأ أعدائنا أنهم يعتقدون أن الإسلام قد مات وشيّع إلى مثواه بعد أن لفظ أنفاسه الأخيرة من خلال طعنات وجهت له هنا وهناك، إما على يد أعدائه وإما على يد أبنائه، لكنهم سرعان ما يعودون هم أنفسهم للإقرار بأن هذا الإسلام يمكن أن يمرض ولكنه لن يموت، يتعثر لكنه يعود فينهض، وإلا فلو كان الاسلام ميتًا وانتهى تاريخه لما كان استحق منهم كل هذا الانشغال والملاحقة وإنفاق الأموال وحشد السلاح لمواجهته، فالميت لا يستحق كل هذا {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} آية 26 سورة الأنفال.
مات النبي صلى الله عليه وسلم وكانت ردة العرب حتى قيل إن الإسلام قد انتهى واندثر، وما هي إلا سنوات إلا والإسلام يطرق أبواب قصور هرقل وكسرى ويدخل عواصمهم.
احتل الصليبيون بلاد المسلمين ووصلوا إلى القدس والأقصى، بل وخططوا للوصول إلى المدينة المنورة لنبش قبر الرسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا بالمسلمين يلقنوهم الدرس في حطين باستعادة القدس وتمريغ أنوفهم في التراب.
احتل التتار بلاد الشرق الإسلامي ودمّروا بغداد عاصمة المسلمين، وقيل أن التتار لا يهزمون، وما هي إلا سنوات إلا والتتار يذوقون مرارة هزيمتهم في عين جالوت.
بعد ثمانمائة عام من حكم المسلمين في الأندلس فقد جرى عليهم قانون الله العادل وناموسه الذي لا يجامل، فأُخرجوا من الأندلس وقيل يومها أن شمس الإسلام قد غابت وانطفأت إلى الأبد، وما لبثت الدنيا أن سمعت واستيقظت على وقع فتح المسلمين للقسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية عام 1453، وراحت جحافل المسلمين تقتحم أوروبا من جهة المشرق حتى وصلت إلى فيينا عاصمة النمسا بعد أن كانوا أُخرجوا من أوروبا من جهة الغرب.
مكثت الدولة العثمانية ترفع راية الإسلام وتدافع عنه ما يقرب من خمسمائة عام حتى عاد وانطبق عليها قانون الله العادل وناموسه الذي لا يظلم، فضعفت وتراجعت ومرضت وهزلت، حتى قيل عنها أنها الرجل المريض ولينتصر عليها الأعداء ويستولون على ولاياتها وأرضها، بل وليحاربوها في دينها وعقيدتها.
ها قد مرت تقريبًا مائة عام على اتفاقية سايكس بيكو 1916، وتقسيم تركيا الدولة العثمانية ومن وعد بلفور 1917 بالسماح لليهود باغتصاب فلسطين وإقامة دولة عليها، وكل ذلك بواسطة الدول التي بدأ نجمها يسطع وشبابها يتجدد، فرنسا وبريطانيا.
مائة عام مرّت من يوم أن بدأت شمسنا في كسوف، وشمس أعدائنا تشرق من جديد، حتى قال قائلهم بأن الإسلام قد مات وانتهى دوره، وأن شمسه قد غابت إلى الأبد، ولكن ولأن الأقوياء لا يتعلمون الدروس ولا يستلهمون العبر ويظنون أنهم شاذون عن القاعدة وأن نواميس الكون لا تجري عليهم، ولأنهم لا يقرأون التاريخ فظنوا أنهم سيظلون أقوياء إلى الأبد، وأننا نحن لن نقوم إلى الأبد.
صحيح أن الغرب ما يزال في زهوه وبريقه خاصة أمريكا، لكن كل عقلاء الغرب يتحدثون أن الغرب يتجه سريعًا نحو التراجع وأنه يعاني أمراضًا كثيرة، وأن مظاهر الشيخوخة والهرم قد ظهرت عليه، وأنها في تسارع. إن عقلاءهم قد كتبوا عن سقوط الحضارات وعن أوروبا القارة العجوز، وكتبوا عن أمريكا التي لن تظل عليه فكان من هؤلاء المفكر الشهير “كيرمود” وكتابه “الاحساس بالنهاية”. وليس أن عقلاءهم قد كتبوا عن مغيب شمسهم بل إنهم كتبوا عن عودة إطلالة وشروق شمسنا بعد كسوفها ويحسبون لذلك ألف ألف حساب:
والقوم يخشون انتفاضة ديننا بعد الجمود وبعد نوم قرون
يخشون يعرب أن تجود بخالد وبكل سعد فاتح ميمون
يخشون إفريقيا تجود بطارق يخشون كرديًا كنور الدين
إن ما نراه وما نسمعه من مواقف عدائية سافرة ضد الإسلام مثل اعتبار الصراع هو حرب دينية صليبية كما صرّح بوش بعد تفجيري نيويورك 11/9 /2001 لمّا قال: “إنها حرب الصليبيين”. وكما يعتقد ذلك ترامب، ومثل تطاول ماكرون على الإسلام، والأهم من ذلك محاربة المشروع والصحوة الإسلامية العالمية عبر دعم عكاكيزهم من العملاء والطواغيت العرب والمسلمين الذين جعلوهم رأس حربة في مواجهة الإسلام، إن هذه كلها لن تغير من حقيقة أن مارد الإسلام قد قام وبدأ يتململ بعد نومه وينهض بعد عثرته ولسان حال كل مسلم يقول:
أنا مسلم سرّ الكرامة في دمي وعقيدتي التوحيد ليس فخارا
أنا مسلم عودي قوي راسخ سأقاوم التيار والإعصارا
أنا مسلم أمشي بخطو ثابت وأقارع الأهوال والأخطارا
انا من يجوز المجد من أطرافه ويحوّل التاريخ والأسفارا
حريتي عزمي وذلّي شهرتي أنا دستها وضعتها إكبارا
نعم إن أعداءنا يتخوفون من أن يتحول الربيع العربي إلى شتاء إسلامي كما قال فؤاد بن العيزر وزير حرب إسرائيل السابق، وإنهم يتخوفون من إمكانية سقوط عكاكيزهم من ملوك وأمراء فاسدين كما يكتب كتاب وباحثون إسرائيليون هذه الأيام عن إمكانية سقوط نظام السيسي وأنه سيكون ضربة قاصمة لإسرائيل.
قال نتنياهو في شهر 10/2017 وخلال كلمة ألقاها في عيد العرش الذي يحل هذه الأيام من كل سنة “إنني أجتهد لبقاء اسرائيل قوية حتى تبلغ المئوية الأولى، ولكن التاريخ علّمنا أنها لم تعمّر لليهود دولة أكثر من ثمانين عامًا وهي دولة الحشمونائيم”.
وإنه الفيلسوف الفرنسي الذي قال جملته الشهيرة، وليس السؤال هل سينتصر الإسلام أم لا، وإنما السؤال كيف ومتى.
فإذا كان لنا أن نتحدث عمّن بدأ يشيخ وعمّن بدأ يزهر ويبرعم من جديد فإنه الإسلام، بينما أعداؤه يشيخون ويهرمون، وعليه فإذا كان القرن التاسع عشر هو قرن الرأسمالية والقرن العشرين هو قرن الاشتراكية والشيوعية، فإن القرن الحادي والعشرين هو قرن الإسلام. وبكلام آخر كما قال فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي فإذا كان القرن التاسع عشر هو قرن المسيحية والقرن العشرين هو قرن اليهودية وإقامة إسرائيل، فإن القرن الحادي والعشرين الذي نحن فيه هو قرن الإسلام بإذن الله تعالى.
إنها مائة عام بين سايكس بيكو 1916 ووعد بلفور 1917، وسقوط الخلافة العثمانية، 1923 يومها كانت شمس المشروع الصهيوني تشرق وشمسنا في كسوف، وبين هذه الأعوام 2020 وما حولها التي تشهد مظاهر لا تخفى إلا على أعمى ومكابر من عودة الإسلام إلى الواجهة وبقوة ليدل ذلك أنه عاد ليشرق شمسه من جديد بينما شموس غيره تغيب.
كل الشموس تغيب إلا شمس أحمد لا تغيب
مذ أشرقت ووجودنا من نورها زاه قشيب
هو للقلوب حبيبها يارب صلّ على الحبيب
رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى