ورثة الأنبياء لهم منّا كل التحية والوفاء
أميّة سليمان جبارين (أم البراء)
مرّ علينا قبل أيام يوم المعلم العالمي، الموافق للخامس من أكتوبر حيث يحتفي العالم بهذا اليوم بالمعلم، ولأن الإسلام دين العلم والعلماء، ولأن الإسلام خير من حفظ مكانة المعلم ورفعها في الدنيا والآخرة، وذلك خلال العديد من آيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية. ويكفي أن أول آية نزلت في القرآن الكريم هي قوله تعالى: (اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علّم بالقلم……)، وقد قال الله تعالى في محكم تنزليه: (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات). وهذا معلمنا الأول معلم البشرية جمعاء سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم يقول: (إن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما إنما ورثوا العلم فمن أخذ به أخذ بحظ وافر)، كذلك قوله في حديث آخر: (إن الله وملائكته ليصلون على من يعلم الناس الخير). هذا غيض من فيض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تتحدث عن العلم والعلماء والتي عملت نقلة نوعية في تلك الحقبة من الزمن، حيث كان الكهنة والمشعوذون يسيطرون على توّلي الأمور لعامة الشعب لأن هذه السيطرة كانت مبنية على الجهل والجهلة، والجميع يعرف قصة جاليليو الذي قال: إن الأرض كروية، كيف أن الكهنة أعدموه واتهموه بالكفر وأن به مس من الجن، كذلك الأمر مع الكاهن مارتن لوثر الذي أراد إجراء بعد الإصلاحات على حكم الكنيسة والكهنة وقد تم قتله، وغيرهم الكثير لا يتسع المقام لذكرهم، تم قتلهم ونفيهم، بسبب علمهم في تلك الفترة من الظلام الحضاري، وكذلك العرب كانوا في تلك الفترة حفاة عراة يعبدون الأصنام لا يفقهون أي شيء من علوم الدنيا، فجاء الإسلام وجعلنا أفضل أمة بالدين والعلم والإيمان، وبنينا أفضل حضارة عبر التاريخ، وفتحنا بلادا لا تغيب عنها الشمس بفضل العلم والعقل، لأن الإسلام يخاطب العقل البشري ويتعامل مع عقل الإنسان، يقول الله عزّ وجلّ: (هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة)، وهكذا كان رسولنا الهادي أول معلم لنا ترك أثره على البشرية جمعاء، حيث تخرّج من تحت عينه الكثير الكثير من المعلمين الذين كانوا لنا منارات شامخة، نستنير بعلمهم، لا أستطيع حصرهم جميعا، لكن أول من خطر على ذهني في هذا المقام، ترجمان القرآن، ابن عباس رضي الله عنه، الذي ملأ الأرض بعلمه، كذلك السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، التي أصبحت مرجعاً للصحابة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا العالم الجليل عبد القادر الجيلاني، الذي تخرج من مدرسته القائد الفذ صلاح الدين الأيوبي، الذي قال عندما فتح بيت المقدس: أنا لم أحررها بسيفي إنما حررتها بقلم القاضي الفاضل. وهذا إن دلّ على شيء فإنما يدل أنه حتى الفتح العسكري من أسباب نجاحه وتحققه العلماء والمعلمين. وللتنويه فإن القاضي الفاضل كان بمثابة وزير الإعلام لدى صلاح الدين حيث كان يكتب له الرسائل المثبتة للجنود والأمراء وهم يحاصرون عكا تمهيدا لفتح بيت المقدس، وهو الإمام الكبير عبد الرحيم أبن علي العسقلاني المصري، ونحن إذ نسينا فلا ننسى الإمام الجوزي، والإمام الغزالي، وابن تيمية، والعز بن عبد السلام، هؤلاء هم خيرة معلمي أمتنا الإسلامية وملهميها.
وممّا لا يختلف عليه اثنان، أن المعلم بالذات لا يُنسى ذكره بمجرد موته بل تبقى ذِكراه خالدة في عقول وقلوب طلابه بالذات إذا كان هذا المعلم صادق النية مخلصا في تعليمه. فيبقى علمه الذي قدّمه لتلامذته وأفنى حياته في تطوير هذا العلم واستكماله لأجل أن يعطي ويعطي من عصارة علمه لأبنائنا، صدقة جارية في ميزان حسناته إلى يوم القيامة. فما بالنا إذا كان المعلم معلما ومربيّا في ذات الوقت. فأي تكريم هذا للمعلم وأي قيمة وتقدير. وقد صدق أمير الشعراء، أحمد شوقي، حين قال: (قم للمعلم وفّه التبجيلا كاد المعلم أن يكون رسولا…. أعلمت أشرف أو أجلّ من الذي يبني وينشئ أنفسا وعقولا). نعم، إنه المعلم الذي يبني المجتمعات والأمم، إنه الفارس الشجاع الذي يقاوم الجهل والتخلف بسيف قلمه وعلمه، ويبني نفوسا وأرواحا بنبض حنانه وعطائه، إنه المعلم الذي تتسلق على أكتافه الحضارات المتقدمة، فها هم كواكب العلم في حضارتنا لا زالوا المرجعية الأولى في الجامعات الأوروبية، أمثال: ابن سينا وابن النفيس والرازي وغيرهم. بل إن العلماء المسلمون والعرب في زماننا هذا يعتبرون النخبة بين علماء العصر الحديث، فها هي الجامعات الأوروبية ومراكز الأبحاث العلمية تعج بعلمائنا وبعقولنا المصّدرة للخارج المنفية بحكم الجهلة من الحكام الخائنين لحضارتنا الإسلامية والعربية، ويحضرني هنا بيت الشعر الذي يقول: لقد كنّا وكان الناس في الزمن الخوالي… طلاب علم عندنا إن في الجنوب أو الشمال… يتتلمذون على حضارتنا كتلمذة العيال)، فحين سُئل الإمبراطور الياباني عن أسباب نهضة بلاده أجاب: بدأنا من حيث انتهى الآخرون وتعلمنا من أخطائهم وأعطينا المعلم راتب وزير وحصانة دبلوماسي. وفي الصين يعتبرون المعلم القطار الذي يقود الأمة وأن المعلم مهندس الروح، وفي دول أوروبا يعتبرون مهنة المعلم من أفضل ثلاث مهن ومن يريد أن يصبح معلماً عليه إنهاء درجة الماجستير في التربية لأن المعلم أولا مرّبي وموجه ومطوّع لأبنائنا.
وأخيرا وليس آخرا، فإنني أسطر أروع كلمات الشكر والتقدير وأرفع قبعتي إجلالا واحتراما لكل معلم علمني حرفا وغرس في نفسي حب الدين والوطن والعلم، وجعله الله في ميزان حسناتكم يا صُّنّاع الحضارة والإنسانية.
وقد شاءت قدرة الله تعالى، أن أعلم بخبر وفاة معلم ومرب فاضل من أبناء بلدتنا أثناء كتابتي هذه السطور، وهو الأستاذ صالح مصطفى صالح أبو اللبن، الذي يشهد له القاصي والداني بنبل أخلاقه، ونسأل الله له المغفرة والرحمة وأن يجعل ما قدّمه لنا من علم في ميزان حسناته. وآخر دعوانا أن صل اللهم على معلم البشرية الأول وهاديها وقدوتها سيدنا محمد النبي الأّميّ.