درس في الحساب استعدادًا ليوم الحساب
الشيخ كمال خطيب
كثيرة هي الأرقام والأعداد التي ورد ذكرها في القرآن الكريم، فقد قال سبحانه {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} آية 147 سورة الصافات. وقال سبحانه {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} آية 4 سورة المعارج. وقال سبحانه {بَلَىٰ إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَٰذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} آية 125 سورة آل عمران. وقال سبحانه {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} آية 30 من سورة المدثر والأمثلة كثيرة.
فذكر القرآن الكريم للأعداد الحسابية والعلامات والأرقام العددية إنما يستهدف لأن يستخدمها الإنسان فيما يحقق الغرض من خلق الله لها، وتعليم الإنسان بها وتوجيهه إليها، وعلاوة على ذلك فلقد وجّه القرآن الكريم نظر الإنسان إلى العد والحساب في آيات كثيرة وأنه حقيقة واقعة في حياة الإنسان، فقال سبحانه {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} آية 47 سورة الحج. {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} آية 5 سورة يونس.
وإنني سأستخدم بعض هذه الأرقام والأعداد، لاستخدامها في لفتة تربوية ولطيفة إيمانية أرقق بها قلوبًا قست، وأرد إلى الهدى نفوسًا جمحت، وأصوب بوصلة انحرفت، فأسأله سبحانه التوفيق والسداد والقبول.
واحد: وهل أعظم من أن يكون الرقم واحد هو الدال على الإلٰه والخالق والمعبود الواحد سبحانه وتعالى. وقد أخرج أحمد والبخاري أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد انسب لنا ربك، فأنزل {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ(1)اللَّهُ الصَّمَدُ(2)لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ(3)وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ(4)} سورة الإخلاص.
قال أبو العتاهية:
فيا عجبًا كيف يعصى الإلٰه أم كيف يجحده الجاحد
ولله في كل تحريكة وتسكينة أبدًا شاهد
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد
وقال شاعر آخر:
يا واحدًا في ملكه ما له ثاني يا من إذا قلت يامولاي لبّاني
أنساك وتذكرني في كل نائبة فكيف أنساك يا من لست تنساني
اثنان: الشهادتان: وهل أعظم دلالة على الرقم اثنين من أنه يدل على شعار التوحيد “لا إله إلا الله محمد رسول الله”. وفي حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: “بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفّيه على فخذيه وقال: يا محمد أخبرني عن الإسلام، فقال له: “الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلًا”. الحديث طويل حيث يبين أركان الإسلام والإيمان ويعرّف الإحسان، حيث في الختام قال النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة الجالسين أتدرون من القائل؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: هذا جبريل جاء يعلمكم أمور دينكم”.
وهل أعظم من دلالة الرقم اثنين على الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم، ثم بعد الله ورسوله في الدلالة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر ليكونا هما الاثنان وثالثهما الله سبحانه {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} آية 40 من سورة التوبة.
ثلاثة: هي ثلاث رسائل وثلاث تطمينات أرسلها النبي صلى الله عليه وسلم إلى المضطهدين والمقهورين والمظلومين من المسلمين في كل مكان وزمان، فقال لهم:
“واعلم أن النصر مع الصبر
وأن الفرج مع الكرب
وأن مع العسر يسرًا”.
يقول الدكتور حسان شمسي باشا: “فهل بعد هذا الوعد وعد”. فما عليك أيها المسلم إلا أن تكون مطمئنًا واثقًا بوعد الله الذي لا يخلف.
إنها إذًا ثلاث مع ثلاث، فمع الصبر حتمًا سيكون النصر، ومع الكرب يقينًا سيتولد الفرج، ومع العسر فإنه اليسر بإذن الله تعالى.
أربعة: أربع تُحلّ بأربع:
الأولى: فإذا ابتليت بحب الشهوات فراجع حسابك مع الصلوات، فالله تعالى يقول {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} آية 159 سورة مريم.
الثانية: إذا أحسست بالشقاء وعدم التوفيق، فراجع حساب برّك بوالديك عامة وأمك خاصة، فالله تعالى يقول {وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا} آية 32 سورة مريم.
الثالثة: إذا شعرت بالضنك والاكتئاب فراجع حسابك مع القرآن، فالله تعالى يقول {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} آية 124 سورة طه.
الرابعة: إذا أحسست بعدم الثبات على الحق فراجع حسابك مع مواعظ الخير ونصائح الصادقين هل تعمل بها أم لا، والله تعالى يقول {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} آية 66 سورة النساء.
خمسة: الأبناء خمسة:
الأول: لا يفعل ما يأمره به والداه، فهو عاق.
الثاني: يفعل ما يطلبه منه والداه، ولكن يتبع ذلك بالمنّ والتأفف فهو آثم.
الثالث: يفعل ما يطلب منه وهو كاره، فهو غير مأجور.
الرابع: يفعل ما يؤمر به عن طيب نفس، فهو مأجور.
الخامس: يفعل ما يريده والداه قبل أن يأمراه أو يطلبا منه ذلك فهو البار الموفق. والصنفين الأخيرين يريان بركة ذلك في سعة أرزاقهم وانشراح صدورهم وتيسير أمورهم {ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} آية 21 سورة الحديد.
ستة: ستة إذا أهينوا فلا يلوموا إلا أنفسهم
الأول: طالب الفضل من اللئيم.
الثاني: الداخل بين اثنين في حديثهما من غير أن يدخلاه فيه.
الثالث: الجالس في مجلس ليس له بأهل.
الرابع: المستخفّ بالسلطان.
الخامس: الذاهب إلى مائدة لم يدع إليها.
السادس: المقبل بحديث على من لا يسمع منه ولا يصغي إليه.
سبعة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “سبع يجري للعبد أجرهن وهو في قبره بعد موته”.
1- من علّم علمًا.
2- أو كرى نهرًا
3- أو حفر بئرًا
4- أو غرس نخلًا.
5- أو بنى مسجدًا.
6- أو ورّث مصحفًا.
7- أو ترك ولدًا يستغفر له بعد موته.
ثمانية: سئل الإمام الشافعي عن ثمانية أشياء فقالوا: ما رأيك يا إمام في:
واجب وأوجب
عجيب وأعجب
صعب وأصعب
قريب وأقرب
فقال الإمام الشافعي:
من واجب الناس أن يتوبوا ولكن ترك الذنوب أوجب
والدهر في تقلبه عجيب ولكن غفلة الناس عنه أعجب
والصبر في النائبات صعب ولكن فوات الثواب أصعب
وكل ما ترتجي قريب ولكن الموت من دون ذلك أقرب
تسعة: قال حكيم عن أفضل تسعة أشياء في ميزانه:
1- أفضل الألسن، لسان لا يغيب عنه ذكر الله.
2- أفضل القلوب، قلب يحنّ على قلب يئنّ.
3- أفضل الأيدي، تلك التي تعطي اليمين فلا تعلم ما أعطت الشمال.
4- أفضل العيون، عين بكت من خشية الله وغضّت عن محارم الله، وباتت تحرس في سبيل الله.
5- أفضل هدية، دعاء يدعوه أخ لك بظهر الغيب وأنت لا تعلم.
6- أفضل الأيام، يوم يمرّ بلا ذنب.
7- أفضل الناس، شخص لا ينساك أبدًا.
8- أفضل الأصدقاء، من يعينك على ذكر الله وإذا نسيت ذكّرك.
9- أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر.
عشرة: إنه موسم من أعظم مواسم العبادة، منّ الله بها على المسلمين غير الموسم العظيم وهو شهر رمضان المبارك. إنها الأيام العشر من ذي الحجة، هي أفضل أيام الدنيا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: “أفضل أيام الدنيا أيام العشر”. وقال صلى الله عليه وسلم: “ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر”. وقال صلى الله عليه وسلم: “ما من أيام أعظم عند الله، ولا أحب إليه من العمل فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد”.
وكيف لا تكون هذه الأيام العشر مباركة وقد أقسم الله بها لمّا قال {وَالْفَجْرِ، وَلَيَالٍ عَشْرٍ} آية 1 سورة الفجر. وقال سبحانه {وَوَاعَدْنَا مُوسَىٰ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} آية 142 سورة الأعراف.
إن من حب الله لعبده أنه يجعل فكره وخواطره إذا ما ذكر الرقم عشرة أن يخطر بباله ويتذكر هذه الأيام العشر المباركة ليجعلها موسم خير وبركات وقربات لله سبحانه. فالمسلم دائمًا قلبه حيّ كثير الاعتبار ليجعل من كل شيء وسيلة تقربه إلى الله سبحانه. والمسلم دائمًا قلبه معلق بالآخرة، يحاسب نفسه ويزن أعماله كلها بميزان الشرع متمثلًا بوصية عمر بن الخطاب رضي الله عنه “حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، فإنه أهون عليكم في الحساب غدًا أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتزيّنوا للعرض الأكبر، يوم تعرضون لا تخفى منكم خافية”.
وفي كل زمان ومكان تذكّر ولا تنس أن الله سبحانه معك حيثما كنت. فإذا كنت وحدك فمعك الله، وإذا كنتم اثنان فثالثكم الله {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ، مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَىٰ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} آية 7 سورة المجادلة.
فاللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم ارزقنا خشيتك في السرّ والعلن يا رب العالمين. اللهم يمّن كتابنا، وبيّض صحائفنا، وثقّل ميزاننا، ويسّر حسابنا، واحشرنا مع حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم نسقى من حوضه الشريف ومن يده المباركة شربة لا نظمأ بعدها أبدًا. اللهم آمين يا رب العالمين.
رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون