المسجد الأقصى في العقلية الصهيونية ومسائل الفرص التاريخية (14)
صالح لطفي- باحث ومحلل سياسي
اعتادت الحركة الصهيونية ومن بعدها اسرائيل بعد قيامها، اقتناص الفرص التاريخية لتحقيق مكاسب سياسية لصالح اليهود، ومن ثم لصالح دولتهم وهذا في منطق المصالح والكسوبات أمرُّ لا ريب فيه ودليل على عمق الالتزام الوطني لشعبهم ودولتهم، ولم تفوت اسرائيل بعد قيامها فرصة سانحة يمكن لها استثمارها لصالح الدولة، إلا ووظّفتها وتاريخ هذه الدولة يشير إلى ذلك، وسيكون من نافلة القول الاستشهاد في مدّ خيوط مع الاقليات الكبرى في مشرقنا العربي، خاصة الاكراد، مستثمرة، حالة الحرب واللاحرب بينهم وبين الدولة العراقية، أو علاقاتهم مع المسيحيين في لبنان.
سيكون الأمر مستهجنا، يوم يشارك الحركة الصهيونية وإسرائيل، من هم من غير اليهود، وتحديدا العرب، وأكثر تحديدا من يحسبون على أهل السنة من المسلمين، في مساعيهم لتحصين دولتهم أي اسرائيل وتحقيق أكبر قدر من المكتسبات لها، ولعل العلاقة التاريخية بين الاردن وإسرائيل، تكشف جانبا مما أشير إليه فضلا عن العلاقة التي ربطت عُمان بإسرائيل أيام ثورة ظفار، التي استمرت في ستينات وأواسط سبعينات القرن الماضي، والعلاقة الخلفية من خلال إيران الشاه آنذاك. في المقابل، مثلا، معروف دور الاتراك في إنزال العلم الاسرائيلي عن قبة الصخرة المشرفة أثناء احتلال شرقي القدس والمسجد الاقصى المبارك، وكيف تتقاطع المصالح ضمن منطق السياسات الإقليمية، وهو ما يحدث هذه الأثناء مع الأردن، وهو مقالنا القادم ضمن هذه السلسلة.
أبناء الزعماء وعلاقاتهم مع اللوبيات الصهيونية
وتداعياتها على المسجد الاقصى
لا يؤمن بقضية الأقصى، إلا من كان حاملا لقيم الدين والتدين، ومؤمنا بالتحرير، تحرير الانسان والمُقَدَسْ. ومتابعات متواضعة لتعليم وتعلم أبناء الحكام تشي أن هؤلاء يدرسون ويُدَرَسون في معاقل الصليبية العالمية، وكل عالم بالأمر يدرك آثار ونتائج تلكم التربية على مشرقنا العربي، إنسانا وأرضا ووطنا ومقدسات، ولذلك باتت اليوم الضرورة ملحة لمعرفة وسبر عمق العلاقات القائمة بين أبناء الطبقة الارستقراطية، والمتنفذة في عالمنا العربي من جهة، وأبناء الزعماء والحكام ممن يدرسون أو يعيشون في الغرب عموما والولايات المتحدة تحديدا، ممن ابتعثوا للتعليم للعودة ليتسلموا مناصب في السلك الحكومي أو الدبلوماسي مع اللوبيات الصهيونية والحركة الصهيونية، ومن هم مقربون من هذه الكيانات ودورهم في توجيه سياسات بلدانهم نحو التحالف مع إسرائيل، على حساب القضايا الكبرى للأمة، بل وعلى حساب مصالح بلدانهم.
في هذا السياق، تأتي موضوعة القدس والمسجد الأقصى، حيث استحالت هذه القضية المقدسة في روع الحكام الشباب في عالم العرب السنة في الدول التي تدور في فلك لندن- واشنطن، إلى مجرد قضية لا تهمهم كثيرا، وكانت صفقة القرن ودور محمد بن سلمان ودفعه من خلف الاستار الامارات والبحرين، للتطبيع مع الاحتلال، وموافقته على طروحات صفقة القرن، خاصة ما يتعلق بالقدس والمسجد الأقصى، مؤشرا على حجم الانحطاط والترهل الذي أصاب هؤلاء القوم.
المسجد الاقصى أكبر من زعماء العرب
المسجد الاقصى المبارك في دائرة الحدث، منذ الغزو النابوليوني لبلادنا أواخر القرن الثامن عشر، ولم يغب للحظة عن العقلية الاستعمارية الأوروبية، على اعتبار رمزية المدينة، فضلا عن أماكنها المقدسة، ولعل قادم الايام وقيام همام بنبش أراشيف الدول الاستعمارية لمنطقتنا، سيبيّن حجم اهتمامهم بالقدس والاقصى، ويكشف عمق صليبيتهم.
في السياق التاريخي، راكمت الحركة الصهيونية ومن بعد إسرائيل، ما تم إنجازه من قبل المستعمر البريطاني لبلادنا، وأسست عليه وجودها واستثمرت قوانين الطوارئ وسياسات فرق تسد للبقاء والاستمرار والسيطرة، وهي ذات السياسات التي استعملتها ولا تزال في المدينة المقدسة.
يتّسم حكام العرب خاصة الاجيال الراهنة من الحكام، إلا القليل منهم، بمستوى عال جدا من الجهل والتخلف المتعلق بشؤون المدينة المقدسة والمسجد الأقصى، باعتبار أن هذه قضية ثانوية كما ذكرت في أجنداتهم وانخراطهم في منطق وعوالم المصالح، كما تفعل مثلا الامارات، حيث باتت تركن في عديد سياساتها الى مراكز بحثية ذات مستويات علمية عالية، توجّه سياسات البلاد، بما يخدم موجودها وترسيخها، سواء في السياق الاستراتيجي كما يفعل مركز دراسات المستقبل، أو في سياق تبديل الأفكار، خاصة الإسلامية، نحو علمنتها وعولمتها لصالح مكتسبات تصب في مصالحهم الاستراتيجية، كما يفعل مثلا مركز مؤمنون بلا حدود.
في كل الأحوال، بات حكام العرب اليوم متنازلين فعليا عن القدس والمسجد الأقصى، وهو ما شجّع عديد الباحثين الاستراتيجيين الإسرائيليين، خاصة من ذوي الخلفيات الأمنية، بمطالبة حكومتهم الاسراع في تنفيذ صفقة القرن فيما يتعلق في المسجد الاقصى المبارك، أو كما ذكر عوزي ديان، على الاقل إقرار قانوني لصفقة القرن في الحيثية المتعلقة في القدس والمسجد الأقصى، حيث الولاية الاردنية دون تنفيذها بسط السيادة على المسجد، لوجود كثافات من المصالح مع الاردن تقتضي في هذه اللحظات التاريخية الحفاظ عليها كونها استراتيجية ووجودية لكلا البلدين، ومن مصلحتهما ابقاء العلاقات بينهما دافئة وحميمة في السياق الأمني، ومن ثم فتأجيل تنفيذ القرار السيادي في هذه اللحظة، مصلحة إسرائيلية عليا، ويوم تتبدل الظروف والاحوال يمكن للاحتلال بسط سيادته على المسجد الاقصى المبارك.
المسجد الاقصى المبارك أكبر بكثير من حكام العرب، ومساعي بعضهم خاصة الامارات، ومن خلف ستار السعودية الساعية لترتيب اوضاع جديدة في المسجد الاقصى وعموم القضية الفلسطينية، ويبدو أن محمد دحلان سيكون من ضمن معادلاتها المرشحة للقيام والعمل، لا أتوقع له المرور السهل، إذ هو اساسا مرتبط بالفلسطينيين، ولعل التحركات الأخيرة بين الفصائل الفلسطينية نحو مصالحة شاملة وبناء منظومة استراتيجية جديدة لمواجهة صفقة القرن، ستكون ردا قويا على كافة التحركات الرامية للنيل من القضية الفلسطينية وقداستها، وفي طليعتها قضيتي اللاجئين والمسجد الاقصى المبارك، لكنَّ الامر برمته مرتبط بحُسن النوايا عند الفصائل وبمدى الحكمة والصرامة والوضوح في التعامل مع هذا الملف الدقيق والحساس، خاصة وأن الاحتلال كما عودنا يملك من القدرة والادوات الكثير في التأثير وحرف الامور عن مساراتها الصحيحة، وإذا كانت الإرادات جزء أساس من المعركة القائمة مع الاحتلال، فواجب الوقت يحتم على الفصائل الفلسطينية من يملك القدرة على التأثير، وعموم الشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده، القيام بعمل إحيائي بين الشباب الفلسطيني الذي جرّفته سيولة الاحداث وأبعدته كثيرا عن صلب الصراع وأسه، اتجاه القدس والاقصى، قبل أن يقال أكلت يوم أكِل الثور الأبيض.