20 عاما على ارتقاء شهداء هبة القدس والأقصى…هل ذهب دمهم هدرا؟! من يتحمل مسؤولية عدم ملاحقة القتلة ومحاكمتهم!! لماذا تراجع الخطاب الوطني في مواجهة الإسرائيلي؟!
طه اغبارية
في كل ذكرى مرّت علينا لانتفاضة القدس والأقصى أو ما اصطلح عليها في الداخل بهبة القدس والاقصى، كانت تتكرر ذات الأسئلة حول أسباب تراجع الأداء الوطني والسياسي لشعبنا في الداخل الفلسطيني وقواه السياسية الفاعلة وأسباب العزوف الجماهيري عن التفاعل مع مناسبات إحياء الذكرى.
في الذكرى العشرين لهبة القدس والاقصى وارتقاء 13 شهيدا من أبناء الداخل، أطلّت جائحة كورونا فأجبرتنا على التواضع واختصار الذكرى واقتصارها على فعاليات محلية، لكن حجم التفاعل مع فعاليات إحياء الذكرى قبل زمن كورونا، لم تكن كما هو مطلوب أصلا.
في هذا التقرير لصحيفة “المدينة”، التقينا باحثين وناشطين سياسيين للسؤال عن أسباب التراجع المتواصل في الأداء المطلوب من أبناء شعبنا وحركاته السياسية في التعاطي مع مناسبات وطنية مثل ذكرى هبة القدس والأقصى، ثم لماذا لم يلاحق أو يحاكم قتلة 13 شهيدا من أبناء شعبنا، مثل عناصر الشرطة ومن يقف خلفهم من سياسيين، أين مسؤولية قيادة الجماهير العربية في اتجاه الضغط لفتح ملفات الشهداء ومحاكمة القتلة؟!!
حالنا وتراجع الخطاب
يقول البروفيسور إبراهيم أبو جابر، نائب رئيس حزب الوفاء والإصلاح، إن “الواقع يشير الى تغيّر ما قد حصل في خطاب بعض المكونات السياسية لمجتمعنا تميل الى الأسرلة والاندماج في المجتمع الإسرائيلي الى درجة التمادي في العمل السياسي الى مستوى الاستعداد للمشاركة السياسية الفعلية ضمن منظومة الحكم الإسرائيلية وتغليب القضايا المطلبية على ثوابت مجتمعنا وشعبنا. إن هذه المعادلة السياسية العقيمة ليس عليها اجماع عام داخل مجتمعنا بل وترفضها شرائح واسعة لها قاعدتها الشعبية العريضة ممن لا يزالون متمسكين بثوابت شعبنا بعيدا عن دهاليز السياسية الإسرائيلية، لعلمهم عدم واقعيتها وما هي الا درب من الخيال والمثالية”.
وأضاف لـ “المدينة”، أن تراجع الخطاب لا يعني المبالغة في جلد الذات خاصة أننا” نعرف حجمنا الحقيقي داخل المعادلة المحلية بكل توليفاتها الأمنية والسياسية، ثم حجم الفضاء المسموح لنا التحرك من خلاله” مستدركا “لكن هذا لا يعفينا من حاجتنا لنصحو من غفوتنا”.
من جانبه قال الأستاذ عوض عبد الفتاح، الأمين العام السابق لحزب التجمع: “في السياق السياسي العام للشعب الفلسطيني الأمور ليست بخير، ولكن مع ذلك كان يمكن ان نستثمر ما جرى في هبة القدس والأقصى بأكثر من ذلك، الان يسهل انتشار الفردانية والخلاص الفردي، والسياسة الإسرائيلية الان تعمل على دمجنا اقتصاديا وضبطنا سياسيا ووطنيا، يريدوننا مواطنين بدون هوية ومجرد خدمات، حولوا أعضاء الكنيست الى وسطاء، نفس ما كان يجري في الخمسينات والستينات ولكن بطريقة حديثة. نحن نحتاج الى ثورة سلمية بكل معنى الكلمة لأن إسرائيل جردتنا من كافة المقومات المادية والاقتصادية”.
يتابع “داخل مؤسساتنا التمثيلية حصلت ثورة مضادة على معاني هبة القدس والاقصى بكل معنى الكلمة، كان سببا في حالنا اليوم، معروف من يقود هذه الثورة المضادة، انها القائمة المشتركة بقيادتها بدون استثناء هناك منهم من هو مغلوب على امره وبدأ يتكيف وهناك من يقود هذه الثورة المضادة”.
وقال الباحث والمحلل السياسي، الأستاذ صالح لطفي، إن الخطاب السياسي بعد هبة القدس والأقصى، شهد تراجعا مواربا مع السلطات، لفتا إلى أن هذا الخطاب تعمق تراجعه بعد حظر الحركة الإسلامية، متابعا في حديث لـ “المدينة”: “هذا التراجع يمكن ربطه بعدم وجود الكفاءة السياسية التي تستطيع أن تتحمل تبعات خطابها، حيث يلاحظ أنه كلما كانت المؤسسة ترفع نسبة الحسم، كانت معدلات الخطاب تتنازل من القومي والوطني الى المطلبي، باعتباره إجماعا ممكنا، هذا الى جانب تأثرنا من محيطنا الفلسطيني والعربي، فمسيرة التراجع في الخطاب ومفرداته تأثرت بالأحداث الجارية في بيئتنا الفلسطينية وحاضرنا المشرقي، هذا نلحظه في سياقات انهيار الاتحاد السوفيتي وسياقات تفكك الدولة القطرية العربية وملاحقات ومساعي استئصال الاخوان المسلمين وانهيار تنظيم الدولة والتغلغل الايراني في المنطقة وما نجم عن اوسلو وإسقاطاتها، وهرولة دول عربية نحو اسرائيل، هذا كله أثّر في الخطاب السياسي ومفرداته”.
وتوقع صالح لطفي أن تشهد المرحلة القادمة المزيد من “الترهل السياسي، كمّا وكيفا” على حدّ تعبيره، وعزا ذلك إلى “ما يهدد راهننا ومستقبلنا بما يسمى منظمات المجتمع المدني التي تتمول من خلف البخار وتحمل اجندات واضحة ونحن كما يقال امام مشهد اول الرقص فيه حنجلة”.
د. إبراهيم خطيب- باحث سياسي ومحاضر جامعي، يؤكد في حدثه لـ “المدينة”، أن “حالة الوعي التي سادت قبل مرحلة الهبة، تميزت بالوعي العميق الوطني والديني باعتبار الداخل مركبا مركزيا من الشعب الفلسطيني، بعد الهبة حدث تراجع على الصعيدين السياسي والوطني، خطاب الأحزاب وخاصة أحزاب القائمة المشتركة تقولب في أن الفلسطيني في الداخل هو الأساس مواطن في إسرائيل، وأن تعاطيه مع القضية الفلسطينية ينبغي أن يكون تعاطي المتعاطف لا كصاحب القضية، وهذا انعكس على الخطاب والمطالب التي تمحورت بكونها حياتية ووضع المطالب السياسية على الهامش. كما لا يمكن أن نغفل الحالة الفلسطينية العامة وتأثيراتها على تراجع الخطاب وتدني سقفه إلى جانب المتغيرات في العالم العربي”.
إغلاق الملفات
يرى إبراهيم أبو جابر أن هناك تقصير واضح من قبل المكونات السياسية العربية، في مسألة عدم الضغط باتجاه فتح ملفات الشهداء ومحاكمة القتلة، لكنه يلفت إلى أن المسؤولية الأساسية تقع على عاتق المؤسسة الإسرائيلية بأجهزتها المختلفة.
يقول بهذا الصدد: “أغلق الجهاز القضائي الإسرائيلي ملف شهداء هبة القدس والاقصى من فلسطينيي الداخل لسبب بسيط جدا، وهو أن القتلة من الأجهزة الأمنية والشرطية يمثلون المؤسسة الإسرائيلية، وينفذون السياسات العامة لهذا الكيان، وعليه فان محاكمتهم ما هي في الحقيقة الا محاكمة للمؤسسة نفسها. لقد تعوّد الإسرائيليون دائما على طريقة سهلة يبدو انهم تعلموها من الاستعمار الإنجليزي وهي تشكيل اللجان عند الازمات، وفعلا هذا ما فعلته المؤسسة الإسرائيلية عندما شكلت لجنة “أور” للبت في ملف شهداء هبة القدس والاقصى، التي لم تفض الا لمزيد من الظلم لذوي الشهداء من فلسطينيي الداخل بقراراتها المجحفة والواهية، ومزيدا من الدعم والتضامن مع قاتليهم من افراد الشرطة والامن”.
بينما يعتقد عوض عبد الفتاح، أن “اغلاق ملفات الشهداء وعدم ملاحقة القتلة ينطوي على تقصير من قيادة الجماهير العربية، هناك قصور واخطاء ذاتية وعجز وهناك نرجسية عند البعض، رغم فشلهم وقصورهم يتمسكون بالموقع، هناك جزء من القيادة بدل ان تستثمر الروح الجماعية التي تجسدت في الهبة والالتحام مع شعبنا الفلسطيني، بدل تجسيدها بمؤسسات تمثيلية وطنية كجزء من شعب وليس كأفراد، هذه القيادات “تجاهد” تكافح لتثبت انها معتدلة والآخرون متطرفون، إسرائيل صنفت الحركة الشمالية والتجمع كقوى متطرفة، والقوى الأخرى تساوقت مع ذلك وحاولت ان تثبت انها مختلفة عن هذين التيارين”.
من جانبه يرى الباحث صالح لطفي، أن “إغلاق ملف القتلة سواء من المستوى السياسي او الامني والشرطي ينسجم والحالة الكولونيالية الإسرائيلية التي تتعامل معنا وفق عقلية ذات إلغائي فوقي، إضافة الى موروث متأصل في نسيجهم السياسي- الأمني المجتمعي الحاضر، يعتبرنا نشكل خطرا إستراتيجيا عليهم، وبالتالي فالمؤسسة الإسرائيلية ستبقى على ذات السياسة لن تحاكم القتلة الا صوريا في أحسن الأحوال كما حدث في مجزرة كفر قاسم”.
كما أشار في السياق إلى “وجود حالة مرضية خطيرة تحدث عندنا في الداخل الفلسطيني ليس هذا مقام تفكيكها بقدر الإشارة إليها، وهي فقداننا معنى قدسية الشهادة والشهيد، فبدل استثمارها لبناء هوية متجددة تُراكم المعنى الحيوي والحي للهوية في سياق الشهادة والاستشهاد، تنتفي هذه الخاصية لحظة حدوث مقايضات مع المؤسسة الحامية للقتلة، بغض النظر عن نتائج هذه المقايضات والمفاوضات ومهما كانت خلفياتها ودوافعها، مساواة، مواطنة، حقوق.. كلها تهدم ما سعت الكتلة الحرجة لتحقيقه، وهذا للأسف ما حدث في تداعيات الهبة، فلم تكن القيادة السياسية على قدر حمل تبعات الحدث ودفعه لما فيه مصلحة مكوننا الفلسطيني”.
في المقابل، بيّن الدكتور إبراهيم خطيب أن المطلوب هو صياغة عمل سياسي جديد يجمع أطياف الداخل التي تؤمن بوحدة المصير وتوحيدها في إطار معين، كما أكد على أهمية “احياء فكرة القدس والاقصى والقضية الفلسطينية وأننا جزء منها ولسنا أنصار متعاطفين، كما يزعم البعض، هكذا يمكن أن نحفظ دم الشهداء ونبقي ملفاتهم مفتوحة حتى لو أغلقت إسرائيليا”.
هل ذهب دم الشهداء هدرا؟!
يؤكد أبو جابر أنه “أبدا لم يذهب دم شهدائنا هدرا بل هو باق الى يوم الدين شاهدا على عدالة قضيتنا وحقنا المشروع في وطننا. لقد ضحى هؤلاء الشهداء بأرواحهم ليكونوا جسر عبور لغيرهم من الشرفاء وأولئك المتمسكين بالثوابت مهما كان الثمن، وما عنا الملاحقات السياسية لرموز مجتمعنا وقادته والزج ببعضهم في السجون والمعتقلات ببعيد”.
ويعتقد أن قبول التعويض في مسألة الشهداء كان مؤسفا، منوّها أنه “لا يمكن إعطاء القاتل فرصة مقايضة الدم بالمال، لان الدم الفلسطيني ليس رخيصا، بل وغير قابل للمساومة أبدا، في حين يبقى القتلة طلقاء بل ويحصلون مقابل جرائمهم على الترقيات والاوسمة كمكافأة لهم على جرمهم، وذوو الشهداء يتجرعون مرارة فقدانهم لأبنائهم”.
يؤكد عوض عبد الفتاح أنه “في ظل الحالة العامة الفلسطينية والعربية وكي نحفظ فعلا دم الشهداء، علينا أن نتحرك علينا أن نحصن ثقافتنا ووعينا وتلتقي كل الأطراف على خطاب عقلاني ومقاومة سلمية وأن نبني جيلا جديدا أؤمن أن طلائعه تمتلك وعيا جديدا متقدا علينا أن نتيح لهذه الأجيال المجال لاستلام زمام المبادرة والقيادة، هكذا يمكن أن نصحن وعينا ونرسخ ثقافة الانتماء والانتصار لقضايانا”.
في الإجابة على هذا السؤال، يبين صالح لطفي: “لن يذهب دمهم هدرا بإذن الله ولكننا بحاجة إلى إعادة بناء وعينا وتشكيله بما ينهض بشعبنا ويؤسس لمسارات جديدة في العمل النضالي وتشكيل قوى ضغط حقيقية على المؤسسة الإسرائيلية تخضعها لمطلب فتح التحقيق مرة أخرى في ملفات الشهداء إلى جانب تخليد ما حدث في هبة القدس والأقصى حفظا لذاكرتنا وروايتنا”.
في المقابل لفت إبراهيم خطيب إلى أن “دم الشهداء ساهم بصيانة الوعي وأصّل لحالة انتماء فلسطينيي الداخل واحياء الذكرى يعبر عن الانتماء ويزيد من عمق الوعي الشعبي ولو حتى من خلال الاستذكار، وهذا يؤكد أن دم الشهداء لم ولن يذهب هدرا فدمهم يشكل وقودا للحفاظ على الهوية ومركزية قضية القدس والأقصى”.