أخبار عاجلةمقالاتومضات

أنا وعائلتي (2).. أطفال الساندويش

د. نسرين حاج يحيى- محاضرة ومستشارة زوجية وعائلية
في المقال السابق، أطللنا عليكم بزاوية جديدة تعنى بمواضيع وقضايا عائلية مهمة ومحورية. وهدفنا الأساسي من زاوية “أنا وعائلتي” هو التوعية وإلقاء الضوء حول قضايا تزيد من ثقافتنا الأسرية، وتساهم في فهمنا أولا لأنفسنا، ومن ثم لأعضاء أسرنا النووية والممتدة، وتوطد بهذا أواصر العلاقات فيما بيننا، ناهيك على أنها تساهم في إدراكنا لأدوارنا العائلية الفعالة والناجعة في التواصل والتعامل والتربية السليمة. وها نحن نجدد اللقاء لنتداول فيه مكانة وخصائص الطفل الاوسط بالعائلة، ما يسمى باسم “طفل الساندويش”.
الابن الوسط: كنّا قد أكدنا أن لمكان الافراد في الترتيب العائلي من حيث الولادة الاثر الكبير على شخصيتهم وطباعهم، وحتى على قدراتهم وإنجازاتهم وطبيعة علاقاتهم الأسرية حاضرا ومستقبلا. ولأن الموقع التسلسلي في الترتيب العائلي له بالغ الأثر على الفرد، فإن البعض يدّعي أنه بالإمكان تحديد ملامح الخصائص الشخصية للفرد، بمجرد أن يعرف موقعه من حيث ترتيب الولادة في العائلة، وكأن لسان حاله يقول: قل لي في أي مرتبة أنت في العائلة، أقل لك من أنت. وبعد أن أبحرنا في عالم الابن البكر، نكمل في هذا المقال مع الابن الاوسط في الأسرة، وأثر ذلك على طباعه ومميزاته وقدراته وانجازاته، علما أننا سنتطرق لاحقا بإذن الله، إلى موضوع الابن آخر العنقود والابن الوحيد، وننوه بداية أنه لسهولة الأمر، سنكتب بلغة المذكر، ولكن المضمون خاص بالجنسين، مع العلم بوجود خصوصية للذكر والأنثى تحديدا في مجتمعنا والتي سنتطرق إليها في مقالات لاحقة.
ما خصوصية الابن الأوسط: خلال كتابة كلمات هذا المقال وفي أوج حيرتي كيف لي أن افتتحه بشكل جذاب، استيقظت ابنتي الوسطى من نومها، وحين وجدتني احتضن حاسوبي النقال وأجلس في غرفتها قالت لي: أمي لقد حلمت حلما وفيه رأيت أن أختي (البكر) قد أرسل بها أبي إلى القمر!!! ولكنها لم ترجع أبدا، وأنا خائفة وبدأت في البكاء… سبحان الله …إن حلم ابنتي الغالية لهو خير وصف لنفسية الطفل الأوسط، فهو يقدم إلى عائلة يوجد فيها ابن سابق تربع على عرش القيصر وبعد حين يليه ابن آخر فالأول “يرسله أهله إلى القمر” عاليا عاليا، ليكون محط أنظار الجميع، ويحصل بذلك على قدر كبير من الاهتمام ويستقي قدر كبير من إلقاء الضوء المصوب نحوه، لأنه تجربة الأهل الأولى في كل شيء، وكذلك الأخير الذي يحظى باهتمام خاص كونه يحتل مكانة الأصغر المدلل الذي لن يأتي بعده أحد.
وأين الوسط؟ إنه يحارب على موقعه، فالأوسط وكأنه بلا خصوصية كما البكر الذي كان له شرف الأول، وكان فترة من الزمن وحده، ولا كما الاصغر الذي لن يأتي أبدا بعده أحد. والجدير ذكره أنه في كثير من العائلات يعيش هذا الطفل الأوسط في منافسة بين الأخ البكر والأخ آخر العنقود على فتات الاهتمام، كأن لسان حاله يقول: أنا هنا انظروا إليّ ولو قليلا. علما أنه سمي بالساندويش من هذا الباب، فكما هو معلوم فإن الشطيرة سميكة الأطراف، والطبقة الوسطى هي الرقيقة والمضغوطة في الوسط، تصارع هذا الضغط وليس لها مكان آخر، فإن خرجت من الوسط فقدت الشطيرة طعمها. ولكن، مهلا أيها الآباء، قبل أن تغرقوا في تأنيب الضمير تجاه ابنكم الوسط الذي يصارع على كسب البعض من الاهتمام والمحبة، تعالوا بنا نرى انعكاسات مكانته في الترتيب العائلي على شخصه، علما أننا نطمئنكم فكما لها انعكاسات سلبية لها أيضا الايجابية وإليكم فيما يلي جانبا من الايجابيات:
الثاني في كل شيء ولكن!!!: صحيح أن الطفل الاوسط يكون الثاني في الولادة، والثاني في استعمال الأغراض والملابس والكتب، والثاني أحيانا بكمية الوقت المبذول من قبل الوالدين والاهتمام (كونهما يرافقان البكر الذي هو أول تجاربهما في كل شيء ولذا يحتاج لطاقات أكثر)، ولكن مع هذا، فللثاني أحيانا أفضلية وأهمها أن الوالدين يكونان أكثر تجربة وثقة بالنفس، وأقل ضغطا وتخوفا ولا يتعاملان معه كأنه “فأر تجارب” بل يستعملان عصار تجاربهما مع البكر حين يتعاملان معه، ليكونا بذلك أكثر جودة وصحة وصوابا بالتعامل، ويقول الاختصاصيون: إن لهذا الأمر بالغ الأثر على شخصية الطفل، فتعامل الوالدين معه من منطلق ثقتهما بنفسهما وزخم تجربتهما ينعكس على شخصيته ويجعلها غالبا أكثر قوة وأشد عودا وأكثر جرأة.
مكاسب أخرى للثاني: إن الطفل الثاني محرر من أزمة “الخيانة” الوالدية، بمعنى أن الطفل البكر كان وحيدا فترة من الزمن، إلى حين اختار والداه إنجاب الطفل الثاني ليشاركه في كل شيء، ويخلعه عن عرش القيصر، كما ذكرنا في المقال السابق، إلا أن الطفل الثاني لا يعاني من أزمة الخيانة لأنه رأى أخاه في محيطه، واعتبر منه من اللحظة الأولى. صحيح أنه في حالة منافسة دائما مع البكر والأصغر ليثبت تميزه، إلا أننا نجد للأمر هذا الايجابية الكبيرة فوجود طفل آخر بمحيط الطفل، لهو المحفز الذي يسرع من تطور الأوسط ونموه، فعنده شريك للعب ولديه قدوة يتعلم منها في كافة المجالات، فعلى سبيل المثال وجد أن الطفل الساندويش يكون في أغلب الأحيان أكثر تطورا من حيث اللغة فيتكلم بعمر أصغر من عمر أخيه وتكون ثروته اللغوية أكبر بكثير. يشار في هذا السياق الى أن وجود طفل آخر في محيط الطفل، يجعله أكثر تطورا من حيث القدرة على التواصل الاجتماعي، ويصقل لديه مهارات التعامل أكثر مع الآخر.
ملخص صفات أطفال الساندويش: يشعرون بمرارة لأنهم في المرتبة الثانية، سواء في الاهتمام، أو حتى بالجوانب المادية، وخير دليل أنهم غالبا يستعملون ما هو قديم و”يد ثانية” لأن البكر فرغ منه في حين يحظى البكر بالجديد. إذا لم يتعامل الوالدان بالشكل الصحيح معهم فإنهم أكثر شعورا بالنقمة إزاء من حولهم والشعور بالظلم. يتبارون مع البكر على اهتمام الوالدين، يشعرون أنهم أقل تميزا. منافسون بطبعهم لأنهم يحاربون على مكانتهم داخل العائلة. مستوى عال من الطموح وحب المغامرة. أكثر قدرة على تطوير العلاقات الاجتماعية. أكثر قدرة على تطوير الثروة اللغوية. أكثر قدرة على التقاسم والتعامل مع الشركاء.
بين سلبيات مكانة الاوسط وبين إيجابياتها ما على الاهل عمله:
لكي يجني الأهل الايجابيات مع طفلهم والتي يقتطفها لمكانته في المرتبة الثانية ولكي يخففوا من سلبية هذه المكانة ويقلصوها بقدر الامكان ينصح بما يلي:
– علينا أن نفهم ونكون حساسين وواعين لما يمر به الطفل الأوسط من منافسة دائمة و”حرب” مستمرة بالوعي أو باللاوعي ونعلم كم هذا يرهقه نفسيا ويثقل على كاهله.
– بعض الأهل يقعون ضحية تأنيب الضمير تجاه الأوسط ويتعاملون معه من هذا المنطلق، وهذا خطأ فادح تماما كما الأهل الذين لا يتفهمون هذا الطفل، فينتابهم الغضب الشديد لتصرفاته التي من خلالها يريد كسب الاهتمام والمحبة. وكل من ردود الفعل (تأنيب الضمير والغضب) سيء ويجب الامتناع منه.
– علينا أن نمنحهم الاهتمام والمحبة والرعاية ونشعرهم أننا “نراهم” ونحس بهم ونهتم بهم ولحالهم كما من المهم تعزيزهم وتشجيعهم.
– علينا الامتناع عن المقارنة بين الإخوة بل بالعكس علينا أن نكتشف جوانب التمييز لديهم والخاصة بهم ونساعدهم على معرفتها والاعتزاز بها، لما لهذا من أثر كبير على بناء ثقتهم بنفسهم من جانب، ومن جانب آخر يخفف من حدة التنافس الهدام مع باقي الإخوة، لإدراكهم أن الكل مميز ولكن في جانب آخر.
– منح مشاعر الحب والتشجيع يجب أن يكون بقدر فلا يجعلنا ننسى أهمية وضع الحدود فلا نتسامح مع التصرفات العدوانية بكل أشكالها فبعض الأطفال في المراتب الوسطى يطورون تصرفات عدوانية تجاه أنفسهم أو تجاه الآخرين كطريقة لكسب الاهتمام ولفت النظر، وعلينا ألا نعزز ذلك بأن نهتم فيهم فقط عند ممارستهم للاعتداءات وإنما العكس تماما يجب ألا نقبل أي عدوانية بأي شكل ولأي سبب.
– بدلا من ذلك علينا أن نعلمهم لغة الحوار والتعبير الصحيح عن المشاعر ليشعروا بالراحة بمشاركتنا بها فنبني معهم جسور الحوار والتواصل ونعلمهم أن يعبروا عن مشاعرهم بالكلام وليس بالتصرفات غير السوية كالإضرار بأنفسهم أو بغيرهم لوجود الغيرة والمنافسة والشعور بالقلق أو الشك.
– يجب أن نتفرغ لأولادنا ونمنحهم ولو نصف ساعة يوميا مخصصة لهم وحدهم نشعرهم أننا لهم وحدهم ونقوم وإياهم بفعالية أو حوار أو لعبة أو أي عمل مشترك نؤكد من خلال هذه الفعالية محبتنا واهتمامنا لهم، وأننا نخصص لهم وقتا خاصا بهم معنا حتى وإن كانت مشاغلنا كثيرة. علما أن لهذه الفعالية الفردية سحرا عجيبا على نفسيتهم والكثير من الآباء والأمهات الذين داوموا على منحها يؤكدون أثرها الايجابي على أطفالهم والعلاقة الوالدية والعائلية عموما.
– إلى جانب العمل الفردي مع الأطفال كل على حدة كما ذكرنا في البند السابق، علينا أن نعزز روح الجماعة والانتماء العائلي والعمل على بناء علاقات حب وتعزيز وتشجيع العمل الجماعي ويمكن أن يكون ذلك بطلب تنفيذ مهمات جماعية يفهم الأولاد من خلالها أنه بدون تعاونهم وأن يكمل الواحد الآخر لن تنفذ هذه المهمة.
وفي النهاية، نقول للآباء والأمهات والمربين عموما أن على رسلكم في التعامل مع الطفل الأوسط فصحيح أن الطفل الساندويش كما حشوة الساندويش مضغوط بين طرفين، إلا أن علينا أن نتذكر أنه بلا هذه الحشوة فلا ساندويش أصلا ولنجعل من هذا الحشوة لذيذة ولنستثمر فيها فكذا يكون الساندويش لذيذ الطعم وحلو المذاق……وصحتين وعافية.
واخيرا نختم بالتأكيد….. كثيرا ما نتساءل ما سر الفروق القائمة بين أفراد الأسرة الواحدة؟ لماذا وبالرغم من أن للأبناء نفس الأم والأب تختلف طباعهم وشخصياتهم وقدراتهم؟ ولعلنا اليوم أجبنا على جزء من الأسباب والتفسيرات للاختلاف بين أفراد الأسرة الواحدة فمع أنهم ترعرعوا في نفس البيت ولنفس الوالدين فإن لترتيب الولادة الأثر الكبير على مميزات الشخصية خاصة أن نفس الوالدين يكونان ذوي أساليب مختلفة بنقاط زمنية مختلفة مما ينعكس بدوره على طبيعة شخصية الأبناء، فالأم مع البكر ليست كما هي مع الأوسط وليست كما هي مع الأخير أو الوحيد أو حتى مع الذكر كما الأنثى وهذا ما يجعل الكثير من الاختصاصيين اليوم كجزء من التشخيص في العلاج والاستشارة المبادرة بالسؤال عن الترتيب والمكان في التسلسل الولادي لما فيه من دلالات على الفرد وشخصيته. وعن هذا الموضوع سنستمر في إبحارنا في عالم الأسرة في المقالات القادمة من زاوية “أنا وعائلتي”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى