استهلاكنا لميزانياتنا في ظل جائحة كورونا: نظرة اقتصادية إسلامية
د. أنس سليمان أحمد
يعتبر ترتيب وتدبير الأموال من أولويات المعيشة على مستوى الفرد والأسرة، ويعطي اقتصادنا الإسلامي اهتمامًا كبيرًا بهذا الجانب، وتوسعت الدراسات فيه لوضع استراتيجيات حول كيفية مساعدة الأسرة على إدارة مواردها المالية ونفقاتها من منظور اسلامي، حيث إن الأسرة عبارة عن مؤسسة اجتماعية تتوفر فيها جميع أركان المنظومة الإدارية والمالية، ولذلك يجب تحديد مصادر الأموال واستخداماتها.
إذ تُعتبر الميزانية المرشد الرئيسيّ والهامّ لجدولة المصروفات التي تنفقها الأسرة بشكل عامّ خلال فترة محدّدة، قد تكون لأسبوع أو لشهر أو حتى لسنة كاملة، فهي تسجّل بدقة ضمن بنودها الإيرادات والمصروفات التي توضّح مجمل الدخل العامّ للأسرة، وتمنع من الوقوع في مشكلات ماليّة خلال الفترة التي حُدّدت فيها الميزانيّة.
والميزانيّة هي عمليَّة التخطيط للنفقات المختلفة في علاقاتها بعضها ببعض، والتي من شأنها توزيع الموارد الماليّة على الحاجات المتعدّدة للأسرة.
لذلك وأمام التحديات التي تفرضها جائحة فيروس كورونا، من الضروري تأكيد إدارة استهلاكنا من منظور إسلامي.
الشارع الحكيم يبدي اهتماماً كبيراً بقضية الاستهلاك على مستوى الكيف وعلى مستوى الكم. ولم يكن مبعث عنايته هذه كون الاستهلاك هو الغاية النهائية للنشاط الاقتصادي عامة والنشاط الإنتاجي منه خاصة، كما هو مسلم به لدى الاقتصاد الوضعي، وإنما مبعثه أن الاستهلاك أمر ضروري لحياة الإنسان ولممارسته لوظائفه الدينية والدنيوية. وما لم يكن وضعه الصحيح فلن تستقيم حياة الإنسان ناهيك عن ازدهارها، وإذا لم تستقم حياة الإنسان في الدنيا فكيف تستقيم حياته في الآخرة، إذن الاستهلاك هو وسيلة ضرورية.
ومن الناحية العملية فإن الاستهلاك يعدّ الهدف النهائي والأخير من النشاط الاقتصادي في الاقتصاد الوضعي، وان المتتبع لأدبيات علم الاقتصاد من الناحية الفكرية والنظرية يرى أن مبحث الاستهلاك هو المقصود النهائي لمباحث الاقتصاد الوضعي، حيث جعل الاستهلاك في حد ذاته هو الغاية النهائية لكل جهود الإنسان الاقتصادية وغير الاقتصادية. فهو ينتج ليستهلك، وهو يستهلك لمجرد لذة ومتعة الاستهلاك، وكذلك يعيش ليستهلك، أي أنه يستهلك ليستهلك، إن صح التعبير، ومن جهة أخرى فليست هناك حدود عليا لما يستهلكه الفرد سوى حدود القدرة على الاستهلاك، ويمكن أن يقال في ذلك إن الاستهلاك دالة متزايدة في حجم سعادة الإنسان، وقد صاغ القرآن الكريم أبلغ صياغة في ذلك حيث قال سبحانه: (…. وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ) (محمد/12).
لكن السؤال المطروح، والسؤال المهم هو: هل هناك ضوابط لدالة المستهلك المسلم الرشيد؟
إن المطلع على مفهوم الاستهلاك في الاقتصاد الوضعي يراه غير منضبط بضوابط أخلاقية ولا اجتماعية، ولكننا في المقابل إذا نظرنا إلى الاقتصاد الإسلامي لوجدناه منضبط بضوابط عديدة، من شأن هذه الضوابط أن تحقق أعظم النفع والأهداف المنشودة، حيث بات يمثل الإنفاق الاستهلاكي الجزء الأكبر من جملة الإنفاق القومي على السلع والخدمات، ولذا قرر الإسلام بعض ضوابط الاستهلاك، ومن أهم هذه الضوابط هي الآتي:
1) سلة استهلاك المجتمع المسلم تقتصر على الطيبات:
وهنا نجد تحريم الإسلام بعض الموضوعات حكمته؛ فالميتات والدم والخنزير رجس يسيء إلى طاقات الإنسان الجسدية، وكذلك الخمر وعموم المسكرات والمخدرات تسيء إلى طاقاته العقلية، والفسق يخل بطاقاته الروحية، لذلك فهي تتناقض مع غاية الاستهلاك ووظيفته قال تعالى: (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)، (الأنعام/145)؛ فالأصل هو حل الطيبات وحرمة الخبائث، وكل ما أضر بالإنسان منع، وإن لم يرد النص به بكتاب أو سنة والله أعلم.
ثم يأتي المسلم الرشيد إلى محددات سلوكه، وذلك لضمان تحقيق التوازن بين الغايات المادية والقيم الإسلامية، ولضمان تحقيق أكبر منفعة لأفراد المجتمع.
2) وسطية الاستهلاك:
الإسلام لا يضبط اتجاه الاستهلاك نحو الطيبات فقط، إنما يضبط درجته أيضاً، فالإنسان مأمور بالاستهلاك إلى الحد الذي يؤمن كامل طاقته، ولذا فقد وضع الإسلام مجموعة من التوجيهات الإسلامية في ذلك منها:
أ – النهي عن الإسراف والتبذير والتقتير
لقد نهى الإسلام عن التبذير والإسراف سواء أكان إنفاقاً عاماً، أو خاصاً فالله تعالى يقول في محكم تنزيله ناهياً عن الإسراف: (وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ). (الأنعام\141)، فالإسراف منهي عنه ولو في القليل إذا كان في غير حاجة، أو ضرورة.
وكذلك التبذير، وهو الإنفاق في الحرام، ولو كان قليلاً، منهي عنه أيضاً، فالله تعالى قال في كتابه الكريم: (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا) (الإسراء\27).
ومن جهة أخرى، فإن التقتير أي الإمساك عن الإنفاق في المباح وإن كان يمثل ظاهرة فردية، إلا أن أهميته قد تكون كبيرة إذ عرفنا أهمية كل فرد من أفراد المجتمع وضرورة مساهمته في الوفاء باحتياجات الآخرين من أفراد أسرته ومن يعول. فلذلك فقد نهى الإسلام عن الإسراف والتقتير معا لأنهما يمثلان نمطين من أنماط التصرف غير السوي الذي يتنافى مع الفطرة البشرية، يقول تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا) (الفرقان/67).
ومنهج الإسلام في مجال الاستهلاك والإنفاق قائم على التوسط، ولنا في كلام الله دليل آخر: (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا) (الإسراء\29).
ب – النهي عن الترف
فالترف منهي عنه شرعاً، وهو تجاوز الحد المشروع في إنفاق المال، والتنعم به مع الغطرسة، والبطر والكِبر، والخيلاء. وتدخل مجموعة السلع الترفيهية ضمن مجموعة السلع غير الضرورية، تلك السلع التي لا تتناسب مع طبيعة المجتمع المسلم ورسالته الإصلاحية في هذه الحياة.
والأحكام الواردة في هذا الصدد تحصّن المجتمع المسلم من أنماط الاستهلاك غير الرشيدة فلا ترف ولا تبذير، وبالمقابل لا بخل ولا تقتير، فكلا الأمرين جنوح لا يتسق مع الفطرة ولا مع الشرع.
3) وحدة سلم الاستهلاك الاجتماعي:
هناك ثمة اعتبارات وترجيحات شرعية تؤكد مبدأ وحدة سلم الاستهلاك للمجتمع المسلم، إذ إن الإسلام ينظر إلى المجتمع على اعتباره وحدة واحدة، وله دالة استهلاك اجتماعية موحدة، لذلك منع الإسلام التمايز، وتكريس الموارد بما يخالف الأصل، ومن المقرر أن لا يراعى تحسين إذا كان في مراعاته إخلال بحاجة ولا يراعي حاجة إذا كان في مراعاته إخلال بضروري، ففي المجتمعات الطبقية الرأسمالية كل مستهلك هو المحكّم في مصلحته، فليس هناك دالة أو وحدة سلم الاستهلاك الاجتماعي، بل يعتبرون أن وحدة سلم الاستهلاك نقض للديمقراطية ولفلسفة المشروع الخاص.
بينما ينظر الإسلام إلى المجتمع المسلم على أنه طبقة واحدة وليس طبقات متعددة، ومجتمع واحد: (وَالأَرضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ) (الرحمان/10)، ولهذا المجتمع دالة استهلاك اجتماعية موحدة.
4) إدخال البُعد الإيثاري والجزاء الأخروي في المنفعة:
إن الإسلام يعيد تعريف المنفعة، وذلك بإدخاله البُعد الأخروي والبُعد الإيثاري، حيث يجعل المنفعة تمتد إلى الأخرى، فقد تضحي بمنفعة دنيوية من أجل منفعة أخروية، فترى الأجر العظيم للصدقة والإحسان والقرض الحسن والنفقة على الأقارب والهدايا والصلة وغيرها من ألوان البر والإيثار، بل تجد الإنسان يوازن بينها وبين الاستهلاك المادي المحسوس أحيانا كما فعل عثمان- رضي الله عنه- مع التجار حين أربحوه بتجارته خمسة أضعاف، ولكنه قال: (ولكن اللهَ أعطاني فيها عشرة أضعاف)، وتصدق بها. بينما الاقتصاد الوضعي لا يتعامل إلا مع المحسوسات المادية.
على ضوء ما تقدم من ضوابط وملاحظات وغيرها نرى الاهتمام الرباني الإسلامي بحفظ الفرد والإنسان على وجه الأرض في توجيهه الوجهة الصحيحة، فإن النفس تركن إلى المهالك إذا تركناها على هواها. ولذا قال الشاعر:
النفسُ كالطفلِ إن تتْرُكْه شَبَّ على حُبِّ الرضاعِ وإن تفطمْه ينفطمِ