المسجد الأقصى في العقلية الصهيونية ومسائل الفرص التاريخية (13)
صالح لطفي- باحث ومحلل سياسي
أيام تفصلنا عن الذكرى الـ 20 لهبة القدس والاقصى، والانتفاضة الثانية، التي كان محورها المسجد الأقصى المبارك. في عام 2000 حكم حزب العمل البلاد، وكان رئيس الوزراء، إيهود باراك، ووزير الأمن الداخلي، البروفيسور بن عامي، وقد اقتحم ارئيل شارون- الذي كان رئيسا للمعارضة- المسجد الأقصى، تحت حماية أمنية وشرطية كبيرتين، وبموافقة باراك وبن عامي، وصرّح تصريحه التاريخي المشهور آنذاك، والذي يعتبر عمليا الخط الذي سارت عليه حكومات ما بعد أوسلو والى هذه اللحظات، قال: (جبل الهيكل في أيدينا ويجب أن يبقى في أيدينا)، وهذا باختصار يعني، أن كل شيء مسموح استعماله لبقاء هذا الثابت السياسي- الأيديولوجي الصهيوني اليهودي.
عندما نعيد النظر في أحداث هبة القدس والاقصى والانتفاضة الثانية، وما تلاها من أحداث، يمكننا القول باطمئنان إن الفلسطينيين قد ضيّعوا فرصة تاريخية، كان بالإمكان استثمارها لصالح تحقيق منجز فلسطيني، يمكن أن ينهي الاحتلال، لكنَّ أطرافا فلسطينية سلطوية آثرت البقاء ضمن محور واشنطن وتماهت معه على حساب المصالح الفلسطينية، ولعبت أحداث سبتمبر 2001 دورا محوريا في قلب الموازين الدولية على الملف الفلسطيني.
أضع هذه المقدمة التاريخية المقتضبة، لأبيّن أن الاحتلال الإسرائيلي الذي آمن بأن المسجد الأقصى تحت قبضته، ويجب أن يبقى كذلك، استوعب بسرعة تلكم اللحظة التاريخية، وكانت ردة فعله شرسة ودموية بامتياز، وتبع تلكم الانتفاضة حربا شرسة على الشعب الفلسطيني، طالت كل شأن من شؤونه، لكنَّ أهم ما في تلكم السياسات التي استثمرت في تلكم اللحظات، هو العمل الجاد على تفكيك الشعب الفلسطيني وتشتيته، هكذا فعلت مع الداخل الفلسطيني، وهكذا فعلت في الضفة والقدس والقطاع، ولم تتوقف هذه السياسات حتى هذه اللحظات، إذ المعادلة في غاية البساطة: كلّما كان الشعب الفلسطيني، كل الشعب الفلسطيني، أضعف كان الاحتلال أقوى، وتمكنه من فرض الحلول النهائية أيسر، خاصة ما تعلّق بالقدس والمسجد الأقصى.
على مستوى الضفة الغربية والقدس، شرع الاحتلال منذ عام 2002، ببناء الجدار العازل، وقد تورط في بنائه عدد من كبار الشخصيات الفلسطينية، من وزراء أمثال، أحمد قريع (أبو العلاء)، وجميل الطريفي، وماهر المصري، والقائمة طويلة، ممّا اعتبر مؤشرا مبكرا على حجم الانحطاط الذي تعيشه سلطة أوسلو آنذاك، واستعدادها لبيع ليس القدس والاقصى بل والشعب الفلسطيني، وقد ابتلع هذا الجدار عشرات آلاف الدونمات من الفلسطينيين وسهّل بناء المستوطنات، وحاصر القدس وعزلها عن عمقها الاستراتيجي الفلسطيني، ومن ثمَّ حاصر المسجد الأقصى المبارك، وتابع هذه السياسات تفكيك المجتمع الفلسطيني من الداخل، عبر سياسات اقتصادية، استهدفت جعل الشعب الفلسطيني مستعبدا للبنوك وللقمة العيش، وهي سياسات رسمت بدهاء خلف البحار، ونفّذها محمود عباس ورئيس وزرائه آنذاك سلام فياض القادم من صندوق النقد الدولي، والمنفّذ لسياسات نيو ليبرالية استهدفت الاقتصاد الفلسطيني والجماعة الفلسطينية، وجعلته عبر تيسير الديون من البنوك التي نمى سوقها بسرعة (بلغ عدد البنوك العاملة في فلسطين عام 2018، 15 بنكا، منها 5 بنوك محليّة تجاريّة، و3 بنوك محليّة إسلامية، و5 بنوك وافدة، ولهذه البنوك عدّة فروع ومكاتب يفوق عددها 300 فرع) مرتهنة إلى الاحتلال، وإلى السوق وإلى الرأسمال العفن، الذي كشفت الأيام مدى فجوره واستعلائه، وعدم مشاركته الهمّ الفلسطيني، ولا أدلّ على ذلك من تدني مشاركتهم في الصندوق الذي دعت إليه سلطة رام الله.
تفكيك المجتمع كضمان إسرائيلي
استفاد الاحتلال من أحداث هبة القدس والاقصى، والانتفاضة الثانية، بأن درس نقاط القوة والضعف في المجتمع الفلسطيني برمته في الضفة الغربية والقدس والداخل الفلسطيني، وقدّم معالجاته، بناء على الحيثية السياسية لكل منطقة، ولم يتردد في استعمال السلاح وقتل ثلاثة عشرة من أبناء الداخل الفلسطيني، كحل فوري يتبعه حلول اكثر تعقيدا وجرأة، وهي نفس السياسة التي انتهجت في باقي المناطق الفلسطينية، فالحرق والقتل والدمار أولا، ثم العمل المنهجي لإبقاء السيطرة، وفي هذه الحيثية يدخل العديد من اللاعبين، كان للأسف من هؤلاء قادة فلسطينيون لعبوا ولا يزال بعضهم يمارس دور العرّاب متلبسا لباس الوطنية والنضالية.
منذ النكبة، وإلى قدوم سلطة أوسلو الى رام الله، تبنى المجتمع الفلسطيني في سياقه المجتمعي- الاقتصادي، قاعدتين أبقياه مجتمعا وافر القوة، كانتا سببا في صموده أثناء الانتفاضة الأولى: التكافل الاجتماعي والتعاضد المجتمعي، وكلاهما عملت السلطة على تفكيكهما بعد الانتفاضة الثانية، وكانت الوسيلة لذلك الحرب المعلنة على لجان الزكاة، ففي عصر فياض تم إغلاق 92 لجنة زكاة ومصادرة أموالها، وذلك بحجة محاربة الإرهاب وتجفيف منابعه، باعتبار أنها البنية التحتية لحركة حماس، وتزامنت هذه الحرب مع اعتقالات إسرائيلية لقادة هذه اللجان ولغيرها من المؤسسات الخيرية، إذ أن هذه اللجان شكلت شبكة أمان معيشي وصحي وتعليمي واقتصادي ومجتمعي للطبقات الضعيفة ولعوائل الشهداء في القدس والضفة الغربية، وكان الأسلوب الثاني الذي قامت به واشنطن مباشرة مع عدد من الدول العربية، بناء قوة أمن فلسطينية عقيدتها الحرب على المشروع الإسلامي، ومتابعة الحرب المعلنة على الإرهاب، وشاركت هذه الأجهزة دولا عربية واجنبية في كثير من أصقاع الأرض هذه الحرب، ولا يزال حديث بعض الاروقة يتحدث عن تورطها في تصفية قيادات فلسطينية. وأمّا الطريقة الثالثة، فهي نشر الفساد بين أركان السلطة، وتنزيله من ثم على الحياة العامة وتسميمها، وهكذا يعيش الشعب الفلسطيني في ثلاثة دوائر من المآسي والمشاكل: المشاكل المعيشية والحفاظ على لقمة العيش بعدئذ انتشر الفقر والفاقة وتحول الشعب الفلسطيني الى مجموعة من المستجدين، إلا قليل (لعل انتشار المئات من المتسولين في الداخل الفلسطيني يكشف جانبا مما أقول)، والمشاكل الاجتماعية، كسبب من أسباب الفقر من مثل: ارتفاع نسب الطلاق، الانتحار، هجرة الشباب وخاصة العقول، وانتشار الفوضى والجريمة والمخدرات وعصابات الإجرام، تحت سمع وبصر ومعونة الأجهزة الأمنية التي من ضمن وظيفتها تنفيذ المهام التي تُوكلُ بها من طرف أسيادهم في تل ابيب وواشنطن، وبعض العواصم العربية، الشركاء في حفل تدمير الشعب الفلسطيني لصالح شعب الله المختار.