وسط دعوات للتظاهر اليوم… تفاقم معاناة المصريين الاقتصادية والاجتماعية
تحلّ الذكرى الأولى لأكبر تظاهرات شعبية شهدتها مصر بعد الانقلاب العسكري، اليوم الأحد، بينما ترفع الأجهزة الأمنية والاستخبارية درجة استعدادها للتصدي لموجات الغضب الشعبي المتصاعدة، والمتوقع أن تزيد حدتها في الأيام المقبلة، ليس فقط استجابة لدعوات التظاهر، بل أيضاً بسبب تعدد الأزمات الاقتصادية والاجتماعية وتفاقم معاناة المواطنين وارتفاع درجة الغليان في الشارع، على خلفية قرارات حكومية متتالية برفع أسعار الخدمات الأساسية والمرفقية والرسوم الإدارية والتراخيص إلى أرقام أعلى من قدرات السواد الأعظم من المصريين. هذا فضلاً عن استمرار تعقد ملف التصالح في مخالفات البناء، في ظلّ اقتراب الموعد النهائي للتقدم للتصالح، الذي حددته الحكومة بنهاية شهر سبتمبر/ أيلول الحالي. وهو الملف الذي تحول إلى سبب للقلق لدى أصحاب ملايين المنازل في ريف مصر وحضرها، بسبب ضخامة مبالغ التصالح والتهديد بهدم المنازل المخالفة من جهة، وتعقد الإجراءات وصعوبة التقدم بطلبات التصالح وعدم جاهزية المحليات في جميع المحافظات – من حيث كفاءة العمل أو قدرة العاملين – لاستقبال هذا الكمّ الضخم من المواطنين الراغبين في تسوية مخالفاتهم، من جهة ثانية.
وتأتي قضية مخالفات البناء في وقت تجدد الدعوات إلى تظاهرات العشرين من سبتمبر، لتكشف من جديد إحدى الظواهر التي بدت على الانقلابيين بعد تظاهرات العام الماضي، وهي حالة عدم الرضى والتوتر بين سلطات الانقلاب والجيش، بسبب إصرار السيسي ودائرته على تسيير أوضاع البلاد بواسطة الجيش واستخدامه كأداة للبطش والتخويف وحماية النظام، وإنجاز المشروعات في آن واحد، مقابل إرضائه بتوسيع مجالات استفادته الاقتصادية. وهو ما أدى إلى إقحام الجيش في قضية المخالفات التي لم يكن يرغب في التصدي لها، بحسب مصادر حكومية عليمة، تارة بتكليفه مسؤولية مراقبة التغيرات المكانية ورصد المخالفات، وتارة أخرى بالتوسع في تحويل المتهمين والمخالفين للقضاء العسكري، ثمّ التهديد بنزول الجيش – وليس الشرطة – لهدم المخالفات ونزع الملكيات، حتى في المناطق الريفية. وقد حذرت تقارير داخلية عديدة أخيراً من زجّ الجيش في هذا الملف، ما أدى إلى تراجع ملموس في مقاربة الحكومة للأزمة، عندما أُعلِن الأسبوع الماضي عن حوافز جديدة لتسوية المخالفات.
ويثير إقحام الجيش في شؤون تراها قيادته لا تمتّ إليها بصلة، سخطاً خافتاً، تتحدث عنه مصادر مختلفة داخل النظام، منذ سيطرت حالة من عدم الرضى والتوتر بين السيسي والجيش بعد ظهور المقاول والممثل محمد علي صيف العام الماضي، وإثارته مسألة فساد بعض القيادات العليا وانتفاعها من المشروعات. ثمّ خروج السيسي للرد عليه بلهجة حادة اعتبرها البعض ازدراءً للجيش والأجهزة، إذ قال: “باسوا إيدي عشان ما تكلمش بس قلت هتكلم”، وإصراره على وضع الجيش في معادلة غير متكافئة في وجه الشعب، غير مكترث بأثر ذلك على الروح المعنوية، سواء للمواطنين أو الجنود.
وبعدها، جاءت مسألة كيفية التعامل مع آثار التظاهرات، إذ سيطرت على قيادة الجيش حالة من الغضب بسبب التدخلات المستمرة في عمله من قبل المخابرات العامة ممثلة برئيس الجهاز اللواء عباس كامل، ومساعده أحمد شعبان ونجل السيسي محمود. والثلاثة سبق أن كانوا ضباطاً في الجيش، لكنهم تعاملوا في الفترة الأخيرة معه باعتباره تابعاً للمخابرات، في إطار رغبتهم في السيطرة المطلقة على جميع الأجهزة، وقطع العلاقات بينها وبين الرئاسة إلا من خلال المخابرات العامة، التي كانت المتحكم الوحيد، وما زالت المتحكم الرئيسي، في المشهد السياسي منذ انتقال كامل لإدارتها خلفاً لخالد فوزي.
وكانت العلاقات قد توترت بين قيادة الجيش والمخابرات، على خلفية استئثار الجهاز الأخير، وتحديداً محمود السيسي، باتخاذ القرار الأمني في الأيام الأولى من أزمة سبتمبر، في ظلّ غياب والده الذي كان يحضر اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، وإصداره بعض التعليمات لوزير الدفاع الفريق أول محمد زكي، الذي لم ينفذها إلا بعد الرجوع للسيسي والتنسيق مع مستشاره الأمني أحمد جمال الدين ووزارة الداخلية. وأدى هذا الأمر إلى انتشار بعض التعليقات المنسوبة إلى قيادات عسكرية رفيعة تنتقد أسلوب إدارة شؤون البلاد، الأمر الذي أزعج السيسي بشدة بعدما نقله له مدير مكتبه محسن عبد النبي، الذي بات منافساً قوياً لعباس كامل في الآونة الأخيرة، وينازعه سلطاته.
وكان لافتاً في الخريف الماضي، حرص المخابرات على تسريب معلومات عن ابتعاد نجل السيسي وشعبان عن صدارة المشهد السياسي، ومواراتهما عن الأنظار، وتوزيع بعض صلاحياتهما على ضباط آخرين كانوا معروفين بعلاقتهم الوثيقة بهما. وتزامن ذلك مع اتخاذ السيسي قرارات عدة سبق أن وصفتها مصادر عسكرية وحكومية بأنها تهدف إلى إعادة اللحمة للجيش، وتهدئة الضباط الصغار والمجندين ومنع تضخم الشائعات المترددة عن الذمة المالية للقيادات العسكرية، بمن فيهم رئيس أركان الجيش الأسبق الفريق سامي عنان الذي أُفرِج عنه بعد نحو عامين من الاعتقال والمحاكمة العسكرية. وكذلك الفريق أسامة عسكر الذي أعاده السيسي إلى العمل العسكري مرة أخرى بتوليته رئاسة هيئة عمليات القوات المسلحة، بعدما كان مجمداً في مناصب ذات صبغة إدارية لمدة عامين تقريباً، وكذلك بعدما أُبعِد من منصب قائد منطقة سيناء العسكرية ومكافحة الإرهاب بادعاءات تتعلق بفساد مالي بملايين الجنيهات نهاية عام 2016.
وشهدت الفترة التالية أيضاً سحب بعض الملفات من المخابرات ومديرها، صديق السيسي المقرب، عباس كامل لصالح مدير مكتب الرئيس، محسن عبد النبي، الذي لا يزال الطرف الأقرب للجيش داخل دائرة الحكم، وإحداث تغييرات عدة في هيئة الأركان وهيئة العمليات والحرس الجمهوري، وإدخال الجيش في حالة من الاستنفار الميداني والترصد الأمني، لإنهاء حالة الفتور والتوتر التي وصلت إلى السيسي تقارير عن انتشارها بين الضباط والمجندين. وتمثل ذلك أساساً عبر سلسلة من المناورات العسكرية التي أجريت على مدى الأشهر العشرة الماضية، بالتزامن مع حالة التصعيد في ليبيا، إذ حرص السيسي على توجيه رسائل للجيش مكتوبة ومعلنة في وسائل الإعلام لتأكيد حيوية دوره، وفيما يبدو ردّ الاعتبار له، كتصريحاته اللافتة عن “دور الجيش الأصيل في سلامة الدولة وحماية المسار الدستوري”. هذا فضلاً عن تكليفه وزير الدفاع وضع الخطة الأمنية العامة، بما في ذلك محاور التنسيق مع الشرطة وغيرها من الأجهزة، بعدما كان هذا الملف يُدار من الرئاسة والمخابرات مباشرة بين 2016 و2019.
وأكمل السيسي مسيرة إرضاء الجيش بالأدوات التشريعية خلال الأشهر السابقة مباشرة على دعوات تظاهرات سبتمبر الحالي. فمنذ ثلاثين يوماً فقط، أصدر قانوناً وافق عليه مجلس النواب في يوليو/ تموز الماضي لتحويل سيناء عملياً إلى منطقة عسكرية إلى الأبد، وفرض رقابة القوات المسلحة على الأنشطة الاقتصادية فيها في المستقبل، مرسياً للمؤسسة العسكرية استحقاقات وسلطات تشريعية يستحيل تجاهلها ويصعب التراجع عنها لاحقاً، حتى إذا تغيّر الوضع السياسي في مصر.
ويتضمن القانون تعديلاً بسيطاً، ولكنه بالغ الأثر، في قانون التنمية المتكاملة لشبه جزيرة سيناء الذي كان المجلس الأعلى للقوات المسلحة الحاكم بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير/ كانون الثاني 2011 قد أصدره مطلع عام 2012. ويتمثل التعديل بنقل تبعية جهاز تنمية سيناء بالكامل من رئاسة مجلس الوزراء إلى وزارة الدفاع، بحيث يكون وزير الدفاع هو صاحب القرار الأول والأخير في جميع مناطق التنمية بسيناء؛ فهو الذي سيختار ويعيّن رئيس مجلس إدارة الجهاز المذكور، وهو الذي يحدد أعضاءه، وهو الذي يملك حق دعوة مجلس الإدارة للانعقاد وحضور جلساته وتكون له رئاسة الجلسات التي يحضرها، وفي هذه الحالة يمثل الوزراء المعنيون وزاراتهم، كما يمثل المحافظون المعنيون محافظاتهم.
وقبل ذلك، وفي نهاية يوليو الماضي، أصدر السيسي ثلاثة قوانين أقرّها مجلس النواب الموالي له، وقضت بتعديل اختصاصات وبعض صلاحيات المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وتعديل بعض مواد تنظيم وصلاحيات مجلس الأمن القومي، واستحداث منصب المستشار العسكري رسمياً للمحافظات، ومنحه اختصاصات جديدة واسعة مع تبعيته لوزير الدفاع.
ومن النصوص اللافتة التي أُدخلت في تلك القوانين، مواد تُدخل المجلس العسكري للمجال السياسي، رسمياً وتشريعياً للمرة الأولى في تاريخ مصر، إذ تحظر الترشح السياسي للضباط إلا بعد موافقة المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وبالتالي يصبح المجلس العسكري قيِّماً على الإرادة السياسية للضباط الحاليين والسابقين. كذلك يكلَّف مجلس الأمن القومي مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة اتخاذ تدابير وآليات عاجلة لمواجهة “الأحوال التي تتعرض فيها الدولة ومدنيتها وصون دستورها وأمن البلاد وسلامة أراضيها والنظام الجمهوري والمقومات الأساسية للمجتمع ووحدته الوطنية لخطر داهم”.
وعلى صعيد آخر يتعلق أيضاً باسترضاء الأجهزة الرئيسية والأذرع الأساسية للنظام، خصوصاً على خلفية الخلاف الذي حدث حول إدارة أزمة سبتمبر الماضية، وتحميل مسؤولية الرخاوة في بداية الأحداث لاستهانة بعض عناصر دائرة السيسي بتقارير الأمن الوطني والأمن العام، تعمّد السيسي خلال العام المنصرم توسيع صلاحيات الأمن الوطني بوزارة الداخلية مرة أخرى، في إطار خطة أكبر لإعادة توزيع صلاحيات المخابرات العامة، التي تبقى العقل المدبر الأساسي لدائرته.
ورغم استمرار أولوية المخابرات على الأمن الوطني في جميع الملفات، وإصدار التوجيهات العامة من مكتب عباس كامل للجهاز الشرطي، إلا أنّ الأمن الوطني بات أكثر تأثيراً من ذي قبل في ملفات السياسة والإعلام، فأُسندت إليه مهمة تشكيل مجلس الشيوخ وإدارة العملية الانتخابية أخيراً، الأمر الذي بدأ على سبيل الترضية وتحوّل إلى تجربة لما هو مقبل من استحقاقات انتخابية.
وحالياً، يشارك الأمن الوطني بفاعلية في “هندسة” مجلس النواب الجديد، إذ اتُّفِق على محاصصة الاختيارات بينه وبين المخابرات حسب أهمية المقاعد والدوائر، وأوكلت دائرة السيسي إلى الأمن الوطني بشكل كامل مهمة اختيار ستين بالمائة من المقاعد بمعايير القبلية والعلاقات الإقليمية بالمناطق الريفية، بحسب مصادر سياسية بحزب “مستقبل وطن” أكدت إشراف الأمن الوطني على الاتصالات والاجتماعات التنسيقية مع العائلات والقبائل ولجان الأحزاب الموالية للنظام في المحافظات، وتحديد المرشحين المختارين.
واستبق السيسي تجدد الدعوة إلى تظاهرات سبتمبر أيضاً، بإصدار تعديلات على قانون الشرطة جعلت للأمن الوطني وضعاً خاصاً ومميزاً داخل وزارة الداخلية، لطالما رغبت فيه قياداته، ولم يتحقق لها ذلك إلا الآن، مع منحه صلاحيات واسعة وتقنين ممارسات كانت تحدث من قبل مثل اختصاصه وحده بمنع ومكافحة وضبط مرتكبي الجرائم المضرة بالحكومة من جهة الداخل، وجميع أشكال الجريمة المنظمة والخطرة العابرة للحدود وما يرتبط بها من جرائم أخرى بالتعاون مع الجهات والأجهزة المختصة، ومنع ومكافحة وضبط مرتكبي الجرائم المنصوص عليها في قانون مكافحة الإرهاب. بالإضافة إلى إبداء الرأي في منح الأجانب إذناً بالدخول إلى البلاد أو الإقامة فيها، وجمع المعلومات المتعلقة بسلامة الدولة وعرضها على وزير الداخلية والاطلاع أو التحفظ على أيّ ملفات أو بيانات أو أوراق أو الحصول على صورة منها، فضلاً عن تمثيل وزارة الداخلية في مجالات التعاون الدولي والأمني بمكافحة ومواجهة الجرائم وغيرها من الصلاحيات.