ذكرى أكثر المذابح بشاعة منذ الحرب العالمية الثانية (2من2)
علي سعادة
يواصل الكاتب والباحث علي سعادة في الجزء الثاني والأخير رصد مخلفات مجزرة مخيمي صبرا وشاتيلا في ذكراها السنوية، والتي تزامنت هذا العام مع توقيع اتفاقيتي سلام وتطبيع بين دولتين عربيتين وإسرائيل.
عدد الشهداء وجنسياتهم
تشير عدة تقارير إلى عدد القتلى في المذبحة، ولكنه لا يوجد توافق بين التقارير حيث يكون الفرق بين المعطيات الواردة في كل منها كبيرا. في رسالة من ممثلي الصليب الأحمر لوزير الدفاع اللبناني يقال إن تعداد الجثث بلغ 328 جثة، ولكن لجنة التحقيق الإسرائيلية برئاسة إسحاق كاهان تلقت وثائق أخرى تشير إلى تعداد 460 جثة في موقع المذبحة. في تقريرها النهائي استنتجت لجنة التحقيق الإسرائيلية من مصادر لبنانية وإسرائيلية أن عدد القتلى بلغ ما بين 700 و800 نسمة. وفي تقرير إخباري لهيئة الإذاعة البريطانية (BBC) يشار إلى 800 قتيل في المذبحة. وقدرت بيان نويهض الحوت، في كتابها “صبرا وشتيلا – سبتمبر 1982″، عدد القتلى بنحو 1300 نسمة على الأقل حسب مقارنة بين 17 قائمة تفصل أسماء الضحايا ومصادر أخرى.
وأفاد الصحافي البريطاني روبرت فيسك بأن أحد ضباط المليشيا المارونية الذي رفض كشف هويته قال إن أفراد الميليشيا قتلوا 2000 فلسطيني. أما الصحافي الإسرائيلي الفرنسي أمنون كابليوك فقال في كتاب نشر عن المذبحة أن الصليب الأحمر جمع 2000 جثة بينما جمع أفراد المليشيا 1000 جثة إضافية ما يشير إلى 3000 قتيل في المذبحة على الأقل.
وصنف الباحثون والرواة، بحسب ما أوردته وكالة الأنباء الفلسطينية الرسمية “وفا” في تقرير لها حول المجزرة، جنسيات الضحايا بـ: 75% من الفلسطينيين، 20% من اللبنانيين، 5% سوريون، وإيرانيون، وبنغال، وأتراك، وأكراد، ومصريون، وجزائريون، وباكستانيون، وآخرون لم تحدد جنسياتهم.
ويعود الخلاف في تحديد أعداد الضحايا إلى دفن عدد منهم في قبور جماعية سواء من قِبل القتلة أو من الصليب الأحمر أو الأهالي، كما أن هناك عددا كبيرا من الجثث دفنت تحت ركام البيوت المهدمة، إضافة إلى مئات الأشخاص الذين احتطفوا واقتيدوا إلى أماكن مجهولة ولم يعودوا أو يعرف مصيرهم.
لجنة كاهان الإسرائيلية
في تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1982 أمرت المحكمة العليا بتشكيل لجنة من أجل التحقيق في هذه المجزرة، وقد قرر رئيس المحكمة العليا، إسحاق كاهان، أن يرأس اللجنة بنفسه، فسميت بلجنة كاهان.
وفي شباط/ فبراير من عام 1983 أعلنت اللجنة نتائج “التحقيق”، وقد تم الإقرار بأن وزير الحرب الإسرائيلي شارون يحمل مسؤولية مباشرة عن هذه المذبحة بالإضافة إلى ذلك فقد انتقدت اللجنة رئيس الوزراء مناحيم بيغن، وكذلك وزير الخارجية إسحاق شامير، ورئيس أركان قوات الاحتلال رفائيل إيتان وقادة المخابرات، من خلال القول بأنهم لم يعملوا ما يمكن أن يؤدي إلى الحيلولة دون حدوث هذه المذبحة أو حتى إيقافها.
واكتفى مناحيم بيغن أمام الضغوط بعبارة تكشف عنصريته، حين قال: “أناس غير يهود قتلوا أناسا غير يهود، ما شأننا نحن؟”.
ورفض شارون قرار هذه اللجنة، ما دفعه للاستقالة من منصب وزير الحرب بسبب الضغوط الواقعة عليه. فيما بعد عين شارون وزيرا بلا حقيبة وزارية، وانتخب بعد سنوات قليلة ليشغل منصب رئيس الحكومة الإسرائيلية، وقد قام بالعديد من المجازر الأخرى في الأراضي الفلسطينية ولم تتم محاكمته على أي من هذه المجازر على الرغم من ثبوت التهم الموجهة إليه.
ولم تكن مجزرة صبرا وشاتيلا أولى المجازر الإسرائيلية التي ترتكب بحق الفلسطينيين، ولن تكون آخرها، فقد سبقتها مجازر “قبيه” و”دير ياسين” و”الطنطورة”، وتلتها مجزرة “مخيم جنين”، ومجازر غزة وغيرها.
ومن جانبها أصدرت “لجنة ماكبرايد” المستقلة التي أنشئت بشكل غير رسمي للتحقيق في “الخروقات” الإسرائيلية للقانون الدولي خلال غزوها للبنان تقريرا عام 1983، وخصصت فصلا منه لمجزرة صبرا وشاتيلا.
ويعتبر عمل هذه اللجنة التي شكلها رجال قانون بارزون من أمريكا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيرلندا برئاسة المحامي والسياسي الإيرلندي البارز شون ماكبرايد أهم تحقيق دولي في مجزرة صبرا وشاتيلا.
وأكدت اللجنة في تقريرها أن “إسرائيل” تتحمل العبء الأكبر من المسؤولية القانونية عن المجزرة، واتهمتها بالمساهمة في التخطيط والتحضير للمذابح وتسهيل عمليات القتل من الناحية الفعلية، واعتبرت أن المليشيات اللبنانية قامت بدور المنفذ للمجزرة.
وفي 2001 رفع ناجون فلسطينيون ولبنانيون من المجزرة دعوى لدى القضاء البلجيكي ضد شارون والمتورطين الآخرين، غير أن ضغوط اللوبي اليهودي أدت إلى إدخال تعديلات على القانون البلجيكي منعت المضي قدما في القضية.
شهادات لصحافيين ومنظمات دولية
ولا تزال الصور التي وثقت مشاهد عشرات الجثث المتناثرة في أزقة مخيم صبرا وشاتيلا للاجئين في لبنان والمنازل المدمرة، وأشلاء الفتيات الممزوجة بالطين والغبار، وبركة الدماء التي تطفو فوقها أطراف طفل مبتورة، حاضرة بكامل تفاصيلها الدقيقة في ذاكرة الفلسطينيين والمناصرين لقضيتهم.
واعتبرت منظمة “هيومن رايتس ووتش” أن ما حدث في صبرا وشاتيلا يصنف ضمن “جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية”.
الصحفي الأمريكي توماس فريدمان من صحيفة “نيويورك تايمز” قال: “رأيت في الأغلب مجموعات من الشبان في العشرينيات والثلاثينيات من عمرهم، صفوا بمحاذاة الجدران، وقيدوا من أيديهم وأقدامهم، ثم حصدوا بوابل من طلقات المدافع الرشاشة بأسلوب عصابات الإجرام المحترفة”.
ووصف الصحافي البريطاني روبرت فيسك الذي كان من أوائل الصحافيين الذين وصلوا إلى موقع المذبحة في تقرير مطول نشرته صحيفة “التايمز” البريطانية في صفحتها الأولى، ما جرى بأنه “أفظع عمل إرهابي في تاريخ الشرق الأوسط الحديث”.
في حين وصفها الصحافي الفرنسي اليهودي أمنون كابليوك في تحقيق له بأنها “أكثر المذابح بشاعة وفظاعة منذ الحرب العالمية الثانية”.
وتروي لوري كينغ، أستاذة الأنثروبولوجيا في جامعة جورج تاون أن “الممرضة اليهودية الأمريكية إلين سيغل، وكانت عملت متطوعة في مستشفى غزة في المخيم، قد أدلت بشهادتها بعد أشهر أمام لجنة كاهانا في إسرائيل، وهي هيئة تحقيق لا تملك قوة قضائية”.
ونقلت الباحثة في مقالة بعنوان “صبرا وشاتيلا: الرعب مستمر” عن سيغل قولها إن “رجال المليشيات المسيحية قادوها مع أطباء وممرضين أجانب آخرين إلى خارج المستشفى، وقاموا بصفهم مقابل جدار تمهيدا لإعدامهم، ثم توقفوا فجأة عن خططهم عند سماعهم شخصا من خارج المخيمات عبر جهاز اتصال لاسلكي. من يستطيع أن يرى ويوقف ما كان يحدث. أعطى أحدهم القتلة أمرا بعدم قتل الأجانب. كان شخص ما يدير عمليات القتل. هذا الشخص كان بلا شك إسرائيليا، يراقب عمليات القتل من موقع قيادة على سطح مبنى السفارة الكويتية المجاورة”.
فيما ذكرت صحيفة “يديعوت أحرونوت” الإسرائيلية أن مراسلها الصحفي الإسرائيلي رون بن يشاي كشف أنه في عام 1982 راقب عن كثب تنفيذ مجزرة صبرا وشاتيلا ضد اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، ورأى أن المليشيات المسيحية تتحضر لذلك، لكنه اتصل على الفور بوزير الدفاع آنذاك أرييل شارون كي يمنع وقوع هذه المجزرة؛ لأنه رأى مؤشراتها من خلال توافد المسلحين المسيحيين على مداخل المخيم، وأدرك ما هم فاعلون هناك، حيث راقبت ذلك من خلال شقة كمنا فيها في إحدى ضواحي بيروت.
واستدرك بقوله: “لكن شارون رد علي قائلا إن هذه مجرد إشاعات، وأغلق الهاتف في وجهي”.
وأشار إلى أنه عند الخامسة فجرا، سافر مع طاقم التلفزيون الإسرائيلي لمخيم شاتيلا، وقال: “رأيت آنذاك كيف أخرج المسلحون المسيحيون الأطفال والنساء والمسنين باتجاه ملعب بيروت لإعدامهم”، واصفا ذلك بأنه “إحدى محطات عمله الصحفية الأكثر تأثيرا في تجربته الطويلة”.
جريمة تنتظر العقاب
لم يكن مخيم شاتيلا عاديا بالنسبة إلى الإسرائيليين ولا إلى العملاء فهذا المخيم يتميز بموقعه الجغرافي القريب من بيروت الغربية وضاحية بيروت الجنوبية، وفي الوقت ذاته هو خزان المقاومة والفدائيين وفيه كان يوجد مراكز لتدريب المقاتلين وكلية عسكرية، علما بأن جميع المقاتلين الفلسطينيين كانوا قد خرجوا ليس من مخيم شاتيلا وحسب، وإنما من كل المخيمات والمواقع في بيروت، وذلك بموجب اتفاقات “فيليب حبيب”، في مقابل الحصول على ضمانات دولية (أمريكية على وجه التحديد) بعدم المس بأبناء المخيمات أو الانتقام منهم.
كذلك فإن مخيم شاتيلا كان المكان الذي خرجت منه المقاومة دلال مغربي وبعض فدائيي عملية ميونخ، وعليه كان الإسرائيليون وحلفاؤهم يرغبون بتدمير المخيم على من فيه وارتكاب أكبر قدر من عمليات القتل في سبيل الانتقام من أهل المخيم ليس أكثر.
وتمر الذكرى الـ38 من دون أن يحاسب أي من المسؤولين عن ارتكابها أو التخطيط لها، والذين كان منهم رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق شارون والذي مات من دون أن يلقى عقابا على فعلته.
هذه الذكرى، التي لا تزال جرحا مفتوحا في الذاكرة الفلسطينية، تفتح أمام أعين العالم تاريخا طويلا من المجازر بحق الفلسطينيين، تاريخا لم يتوقف حيث يقتل الفلسطيني حتى اللحظة بدم بارد وكأنه طريدة أو فريسة دون أن يحاسب القتلة أو ينصف الضحايا!!