المعركة الأولى… معركة الحجاب
ليلى غليون
إن قاسم أمين لم يكن يتحرك وحده في الميدان، فالاستعمار ليس غبيًا إلى هذا الحد، والتغيير حتى يأتي ثماره فلا بد له من عدة وعتاد وأموال وشخصيات لها قوة وتأثير ومراكز في المجتمع، فها هو سعد زغلول يشد على يديه ويشجّعه على هذا المسار الجديد ويقف مساندًا وداعمًا ومدافعًا عنه وعن أفكاره قائلًا له: امضِ يا قاسم في طريقك وسوف نحميك.
من هنا بدأت بذور ما يسمى بقضية المرأة بالانتعاش والنمو في تربة ممهدة خصبة، أنبتت للمرأة قضية وفق الرؤية التي ينادي به دعاة التحرير والتي ليس لها من هدف سوى إقصاء الدين عن مجريات الحياة العامة، فاختلقت قضية المرأة كواقع جديد جعلت المرأة فيه هي الشبكة وهي الطعم في نفس الوقت.
وها قد أصبح للمرأة قضية، وها هو قاسم يفجّر قنابل فكره بكل جرأة ويقولها بصراحة وعلانية: (إن المرأة المصرية يجب أن تصنع كما تصنع أختها! الفرنسية لكي تتقدم وتتحرر ويتقدم المجتمع كله ويتحرروا!).
وحتى تكون القضية أكثر نجاحًا وتأثيرًا لا بد أن يقوم باحتضانها وتبنيها جهات ذات مراكز وتأثير في المجتمع، فكان هناك نخب جاهزة أو بالأحرى تم تجهيزها لهذا الغرض، لتتبنى مجموعة من النساء المصريات القضية برئاسة هدى شعراوي بمساندة من الرجال الذين أشهروا سيوفهم دفاعًا عن القضية مطالبين بحقوق المرأة المسلوبة ليتصدر سلم هذه الحقوق حق المرأة بالسفور…هكذا فجأة وبدون مقدمات أصبح موضوع الحجاب والسفور موضوع الساعة والأساس الذي انطلقت منه قضية تحرير المرأة.
فالحجاب في المفهوم النسوي ظلم وقهر على المرأة وقيد فرضه الرجل عليها كما فرضه عليها هذا المجتمع المتحجر، وحتى تتقدم المرأة وتتحرر فلا بد لها من نزعه.
مسرحية حرق الحجاب
في هذه الفترة من الزمان كانت هدى شعراوي ابنة محمد باشا سلطان قد تزعمت “النهضة النسوية” وكانت قد سافرت إلى فرنسا وهي محجبة طلبا للعلم ولكنها عادت سافرة مغسولة الدماغ كما عاد قبلها قاسم أمين، وعند وصولها مصر عن طريق البحر ونزولها من الباخرة سافرة، كان في استقبالها أبوها ومعه بعض أصدقائه الأمر الذي أحرج والدها وشعر بالخجل من سفور ابنته أمام الرجال، إلا أنها لم تكترث وأصّرت على موقفها بالسفور والخروج عن الأعراف والتقاليد، وهدى شعراوي لم تكن وحدها في ميدان التحدي بل كان معها مجموعة من الرجال والنساء الذين تم تجنيدهم، فهبوا يدافعون عن فكرها الجديد بكل وسيلة من خلال الصحف والمجلات، بالشعر والنثر، حيث جعلت من بيتها ملتقى تجتمع فيه مع هؤلاء وهي سافرة تتداول معهم القضية لإنجاحها في المجتمع مستغلة مكانتها كابنة باشا ومستغلة ظروفهم وحاجاتهم المادية، لشراء مواقفهم المؤيدة لفكرها لتدفعهم للكتابة عنها وعن نشاطاتها في الصحف والمجلات مقابل أموال تغدق بها عليهم.
وفي عام 1919 حيث الاستعمار الانجليزي لا يزال رابضا على أرض مصر لتثور المظاهرات في كل مكان ومن بينها كانت مظاهرة نسويه “أو قل مسرحية نسوية” في ميدان الإسماعيلية أمام ثكنات الجيش الانجليزي تترأسها “صفية زغلول” زوجة سعد زغلول، وأخذت النساء يهتفن بسقوط الاستعمار وشعارات ضد الاحتلال، وفجأة وإذ بالمظاهرة تأخذ منحى آخر، فبدون سابق إنذار تخلع صفية هانم الحجاب وتخلع النساء المتظاهرات الحجاب أيضا، ويلقينه على الأرض ويشعلن النار فيه، ليطلق على ميدان الإسماعيلية الذي خلعت المرأة فيه حجابها ميدان التحرير!
وكل عاقل من حقه أن يسال، ما علاقة هذه المظاهرة التي خرجت ابتداء احتجاجا على وجود المحتل في مصر، ما علاقتها بالحجاب حتى تشعل النار فيه؟ وهل تحررت مصر عندما تحررت المرأة من حجابها؟ أم أن الانجليز هم الذين فرضوا عليها الحجاب وبنزعها له انتصرت عليهم؟!
وها قد نزع الحجاب عن المرأة المسلمة في ميدان التحرير، وشيئا فشيئا بدأت مظاهر السفور تظهر وتنتشر هنا وهناك في المدن المصرية وأصبحت نوعا ما مألوفة وقد بدأ الناس بالتعود عليها، وقد ساعد على هذا التغيير وسيلتان مهمتان لهما من التأثير الفعال الشيء الكثير: التعليم من جهة والصحافة من جهة أخرى حيث سقط الحجاب بالتدريج من خلال بنات المدارس.
ماذا بعد سقوط الحجاب؟
بما أن الخطوة الأولى (وهي سقوط الحجاب) قد تمت بنجاح، فالخطوة الثانية هي تعميم هذا السقوط على المرأة المصرية عامة، وكانت المخططات بالخفاء ومن خلف الستار حتى لا يفتضح الأمر ويبوء بالفشل، فالإعلان عن السفور مرة واحدة وبدون تمهيد سيواجَه بموجة من الرفض خصوصًا في هذا المجتمع المحافظ وإن كان يغلب عليه التخلف العقدي، فهو على الأقل متمسك بالعادات والتقاليد التي أخذت تواجه بثقافة وقيم جديدة وليس من السهل التغلب عليها دفعة واحدة بل لا بد لها من مراحل ولا بد للطبخة أن تنضج على نار هادئة.
وقد تم افتتاح أول مدرسة ثانوية للبنات في القاهرة وإن كان هذا الأمر لا غبار عليه، ما دام الهدف تعليم البنات إلا أن اللعبة تمت بإحكام وبخبث مستور حين تم تعيين مديرة انجليزية للمدرسة، مديرة محافظة جدًا (أو هكذا طلب منها أن تمثل هذا الدور حتى تحظى بثقة الأهل والمجتمع) وليس هذا فحسب بل كانت جميع الهيئة التدريسية من النساء باستثناء مدرس اللغة العربية لعدم وجود مدرسات للغة العربية، تم اختياره من الرجال المتقدمين بالسن والمشهود لهم بالصلاح وذلك حتى يتم القضاء على كل تردد أو شك أو سوء فهم ممكن أن تثور بالنفوس، فما دامت المدرسة كل هيئتها نساء ومديرتها امرأة حتى الرجل الوحيد فيها شخص كبير بالسن، فلا بأس لو أرسل الآباء بناتهم إلى هذه المدرسة للتعليم ما دام الإطار المدرسي سيحافظ على هؤلاء البنات وبالنسبة للمنهج الدراسي المقرر للفتيات، فهو يبدو أيضًا لا غبار عليه، فالفتاة تدرس إضافة للمواضيع العلمية، مواضيع تخص المرأة كالتدبير المنزلي وتربية الأبناء…إذن فالفتاة هنا في أمان وستحظى بالتوعية في كيفية إنشاء الأسرة وكيف تتهيأ للحياة الزوجية، حيث كان السبب الأساس لمعارضة تعلم الفتاة بعد المرحلة الابتدائية، أن هذا التعليم سيعطلها عن الزواج.
ثم ألغيت المواضيع الخاصة بالمرأة (التدبير المنزلي، تربية الأبناء…) وتراجعت مديرة المدرسة عن صفة المحافظة جدًا كما كانت، بل خفت شدتها وصلابتها مع الفتيات، واهتمامها بالسلوك والأخلاق أصبح أمرًا ثانويًا، ثم جاءت بعدها نساء مصريات عملن مديرات للمدارس لم يعرن لقضايا الأخلاق أدنى اهتمام…وهكذا بنجاح تم تمرير هذا المخطط والذي بالطبع لن يتوقف عند هذا الحد فالمشوار لا يزال طويلًا والثمرة لم تنضج بعد فما هي الخطوة القادمة؟ هذا ما سنعرضه في الاسبوع القادم ان شاء الله.
(هذه السلسلة تلخيص لكتاب “قضية المرأة” للأستاذ محمد قطب مع بعض التصرف).