المسجد الأقصى في العقلية الصهيونية ومسائل الفرص التاريخية (12)
صالح لطفي- باحث ومحلل سياسي
تعمل المؤسسة الإسرائيلية لتحقيق مصالحها الاستراتيجية، على أساس من منظومات استراتيجية داخلية وخارجية، ففي السياقات المحلية تشكل سياسات السكان والإسكان المتعلقة في السياسات الحيوية “البيو بولتيك” أحد أهم معالمها الإستراتيجية، إذ إن مسألتي التفريغ والتعبئة ما زالت تشكل هاجسا إسرائيليا، لما يتوقف الى هذه اللحظات في المدينة المقدسة عموما والبلدة القديمة خصوصا، والجغرافيا السياسية المرتبطة جذريا بالاستيطان والرؤية الاستعمارية لتوطين المستوطنين وطرد أصحاب الأرض، ولذلك لم تتحدد منذ عام 1948 والى هذه اللحظات المساحة النهائية لمدينة القدس، والمسألة الثقافية كمعطى هوياتي تعتبر العمود الثالث في الرؤية الاستراتيجية الإسرائيلية داخليا وخارجيا، فهي تصدر تترا بيانات ودراسات واوراق حول القدس، وتعتمد تعميق الهوية اليهودية لمعالم المدينة الحضارية، وتتعمد عدم الإشارة الا قليل للمعالم الإسلامية والمسيحية، بل وتسرق التاريخ والجغرافيا في عملية مفضوحة.
سياسات الاختراق والاحتواء
في السياق الاستراتيجي المتعلق بالخارج ( خارج حدود إسرائيل) بعيدة المدى، فإنها في سياق القدس والمقدسات وترويج الحق التاريخي والأخلاقي والسياسي، تعتمد سياسات الاختراق والاحتواء، ولتحقيق ذلك، تستعين بكل وسيلة ممكنة، من ضمن ذلك ذراعها العالمي، ممثلا بالحركة الصهيونية والجمعيات والمؤسسات الموالية لها، والمنتشرة والمتغلغلة في شرايين الدول الغربية والشرقية وروسيا، وهي تتمتع بنَفَس طويل لا تتعجل قطع الثمار، بقدر تغلغل أفكارها وطروحاتها إلى العقل العربي في منطقة الأوسط، لذلك تعتمد من ضمن أول ما تعتمد، اختراق النخب المثقفة التي تعتبر بشكل أو بآخر الطبقة الوسطى، وذلك لخلق طابور خامس من هؤلاء المثقفين، ليمارسوا دور العراب في نشر ثقافة تتحدث عن حق الصهيونية الديني والتاريخي في المدينة المقدسة، ويتم عبر هذه النخب والعسكر، فرض هذه الرؤى على تلكم الشعوب.
كشفت العشرية الأخيرة من القرن السالف، ومع انهيار الاتحاد السوفياتي، عن تهافت المثقفين العرب، وخاصة المنتمين الى تيارات اليسار، حيث سارعوا بالهرولة نحو الأمركة والانتظام تحت ظل سياسات الأنظمة التي ارتمت بالحضن الأمريكي، وقبلت بالليبرالية، التي عمدت واشنطن وصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي لنشرها واعتمادها في تنمية اقتصاد تلكم الدول، ومع تنام مستمر لدول الخليج كدول ريعية ورعوية (الدولة الرعوية، تلكم التي تهتم برعاية وكفالة المواطن من ميلاده الى لحده صحيا واجتماعيا وتعليميا) بدأ مع سبعينات القرن الماضي وانتهى مع بدايات هذا القرن، حيث تم استنزاف تلكم الدول على الإنفاق العسكري والابتزاز الأمريكي لهذه الدول، وهو ما دفع الملك عبدالله بن عبدالعزيز في عام 1998 في قمة مجلس التعاون الخليجي التاسعة عشرة في أبو ظبي بقوله: إن “زمن الرفاه قد ولّى”، داعيا إلى تغيير في وظائف الدولة، مطالبا بضرورة تعوّد الناس على نمط مختلف من الحياة لا يقوم على الاعتماد الكامل على الدولة، بل بتحمل كل فرد، بجانب الدولة، دوره الإيجابي والفاعل، وكذلك الأمر بالنسبة للقطاع الخاص. وهو ما فتح الأبواب على مصراعيها للتغلغل الأمريكي والاوروبي في تلكم المنطقة، تقاطعت فيه مصالح تلكم الدول عبر ملوكها وأمرائها من جهة، والجهات الامريكية التي من ضمنها لوبيات يهودية وصهيونية في صلب أولوياتها خدمة إسرائيل والمشروع الصهيوني. وفي ظل تلكم التحولات حدثت أنواع متعددة من التعاقد بين زُمَر المثقفين ممن ارتدوا على أدبارهم، وملوك وأمراء ورؤساء العرب، رغبا ورهبا.
المثقف ودوره في هتك المسلمات ونزع القداسة
عادة ما يتعاقد المثقف، تعاقدا نجسا مع النخبة السياسية الحاكمة، ويتحول إلى بيدق (كما في لعبة الشطرنج)، يمرر سياساتها ويفلسفها، من أمثال هؤلاء، على سبيل المثال لا الحصر، المثقف السعودي كساب العتيبي، فقد غرّد عدة تغريدات حول القدس والمسجد الأقصى، ينزع عنهما مسألة القداسة، ومن ذلك تغريدته في الأول من أغسطس 2019، تحت عنوان للعُقلاء فقط كتب: “.. المسجد الأقصى لا يُعتبر حرماً كحرم مكة والمدينة، وليس له أحكام شرعية خاصة كتحريم القتال فيه، وتحريم صيد الحيوانات والطيور الموجودة به وقطع نباته. ولابن تيمية كلام جميل حول هذا. ويبقى للأقصى مكانية أدبية وتاريخية”. ثم غرّد ثانية في 31 يوليو 2019: “لا يوجد قداسة لأي وطن عندي سوى المملكة العربية السعودية. ولا قداسة لأي مسجد سوى بيت الله الحرام في مكة المُكرّمة والمسجد النبوي في المدينة المنورة. أما الأقصى فقداسته أدبية كبيت من بيوت الله، مثله مثل مسجد حارتنا. لا يخدعونكم بشعارات شرعية خاطئة يتم تسويقها لتكبيل العقول والقلوب”. هكذا يتم تمرير السُم بين قطاعات المجتمع، لتتحقق مسألة اهتزاز القداسات، حتى تكون ثمة مقدمات للوصول الى ما آل إليه الواقع العربي، الذي تظافرت عليه الخيانات من كل حدب وصوب.
كان للعديد من المسلسلات العربية والخليجية دور مفضوح في توطئة الأرضية للتطبيع بين هذه الدول والاحتلال الإسرائيلي. من هذه المسلسلات مسلسل “أم هارون” الكويتي و”مخرج 7″ السعودي، ومسلسل “حارة اليهود” المصري، ومسلسل “باب الحارة” السوري في حالته السابعة، حيث استحدث حارة اليهود، وكل هذه المسلسلات ومقالات وتغريدات المثقفين كانت مهمتها تبييض صفحات المحتل، ومهاجمة الفلسطيني ومحاصرة المقاومة ومحاولة خنقها، وإعدامها تمهيدا لتمرير التطبيع ودفعه ليكون شرعيا في عالم عرب اليوم، عرب ما بعد الربيع العربي وسيطرة الاستبداد.
إسرائيل بصفتها وريث الكولونيالية الغربية في المنطقة وصاحبة مدرسة تتطور باستمرار في ممارساتها الاستعمارية، فهي تعتبر عملية اختراق النخب العربية من ضرورات البقاء، ومن ثم الهيمنة والسيطرة، ولذلك تنشد عبر أدواتها الثقافية والأكاديمية الوصول الى أمثال هؤلاء المثقفين، الذين يمارسون اليوم دورا مركزيا في تفكيك المسلمات العقدية والشرعية المتعلقة بالقدس والمسجد الأقصى، تمهيدا للسيطرة اليهودية- الصهيونية- المسيحيانية على المسجد الأقصى المبارك، بحيث يكون الشركاء في هذه العملية أكثر من دولة عربية، وجمع من المثقفين، حتى يتم بسهولة توزيع دم هذه القدس على الجميع، ويسهل حمله ويصعب على الفلسطينيين ومن معهم من أهل الطهارة والنقاء مواجهة الجميع. ولذلك في هذا السياق، تُنَزِلُ إسرائيل سياساتها الاستعمارية على القدس والمسجد الأقصى، وفقا للإيقاعات التي ذكرت آنفا، ضمن سياقات المغالبات السياسية البين داخلية وتعقيداتها الأيديولوجية والدينية، والآخر الخارجي الذي فيه الولايات المتحدة ضامنا أساس ومركزي، في محوره القدس عاصمة أبدية للاحتلال والمسجد الأقصى يكون معبدا للجميع، كما صرّح كوشنير في أبو ظبي مؤخرا، وذلك ضمن سياسات كيّ الوعي الحادث هذه اللحظات.