ليلى غليون
إن زرع أي فكرة جديدة في المجتمع، أو تغيير أي قيمة فيه، لا بد لذلك من تمهيد وإيجاد أرضية خصبة تصلح لاستنبات الفكرة أو القيمة من أجل نموها ونجاحها وبالتالي قطف ثمرتها والذي هو الهدف الأساس من استنباتها.
لذا نعود بالذاكرة إلى أكثر من مئة عام حيث أغلب وطننا الإسلامي يرزح تحت نير الاستعمار الأجنبي، حيث العالم الإسلامي في تلك الحقبة كان منحرفًا عن حقيقة الإسلام أو كما أسماه المفكر الإسلامي محمد قطب (بالتخلف العقدي) وما نتج عن هذا التخلف العقدي من تخلف في كافة مجالات الحياة، ومنها الوضع المزري الذي كانت تتلفع بعباءته المرأة المسلمة من إهانة وتحقير والدوس على حقوقها الشرعية بل والدوس على الوضعية الإنسانية التي وهبها الإسلام ورفع من درجاتها فهي المعززة والمكرمة ما دامت في أكنافه، ولأن الإسلام كان مغيبًا عن مجالات الحياة فقد تغيبت المعاملة الإنسانية مع المرأة ليسود الجهل والتزمت والعادات التي ما أنزل الله بها من سلطان، وهذا الحال القاتم الذي كانت تعيشه المرأة ليس وحده الذي شكل دفيئة خصبة لنمو بذور قضية المرأة في وطننا العربي، بل كان لا بد من تجنيد من يقومون على خدمة هذا المشروع من أبناء وبنات جلدتنا فالاستعمار بجيوشه ودباباته ومدافعه سيرحل في يوم من الأيام ولكن لا بد من بقاء فكره وهيمنة ثقافته، لأن هيمنة الفكرة أقوى وأشد تأثيرًا من هيمنة المدفع أو الدبابة، وهذا ما حدث، فقد اعتلى صهوة هذه القضية بطل مغوار!! جرد سيفه من غمده مستميتًا للدفاع عنها بالروح والدم، إنه الشاب قاسم أمين والذي نشأ في بيئة محافظة وكان فيه من النبوغ والفطنة والعلم ما جعله مرمى هدف لأصحاب النوايا الخبيثة ليصبح كالعجينة بين أيديهم، من خلاله يسهل عليهم تمرير مخططاتهم وأهدافهم، ليخرج الشاب قاسم أمين وكان في العشرين من عمره في بعثة إلى فرنسا من أجل أن يرد على رسالة مستشرق هاجم الإسلام متهمًا إياه بالتخلف، والجهل والتقوقع، وأنه أهدر كرامة المرأة ولم يعترف بها ككائن إنساني له كل الحقوق والاعتبارات الإنسانية.
لقد سافر قاسم أمين إلى فرنسًا غضبًا للإسلام وغضبًا على هذا المستشرق. ذهب ليدافع عن دينه الذي نشأ عليه وليقول لفرنسا ومن على شاكلتها أنه الإسلام الذي ببزوغ فجره ولدت الكرامة الإنسانية، بل ولد الإنسان بإنسانيته من جديد.
نعم هذه كانت الأسباب الظاهرة للبعثة التي سافر معها قاسم، وهذه هي النية التي من أجلها سافر قاسم، ولكن وراء الأكمة ما وراءها، ويبدو أن قاسما لم يسافر إلى فرنسا بل التقطوه وابتعثوه إلى فرنسا لحاجة في نفس يعقوب ليذهب قاسم إلى فرنسا ولم يعد…عفوًا بل عاد إلى مصر ولكنه ليس قاسما الذي خرج منها والدماء تغلي من عروقه حمية على للإسلام والعقيدة.
علاقة ولكنها بريئة
فقاسم أمين الذي تغلي الدماء في عروقه حمية للإسلام سيذهب بنفسه وسيرى بأم عينه وسيعايش بكيانه حقيقة ذلك الواقع الغربي الذي تغمره الحضارة! والمدنية! والعلم! وسيشهد بنفسه على هذا العالم الراقي الذي يفتقر عالمه وواقعه وبيئته إلى أدنى مقوماته، وهذا ما حدث، لقد وقف لحظة صمت مع نفسه، لحظة هزت ذاك البناء الفكري والعقدي لديه، لترتبك أفكاره وتتشوش معتقداته، ليعيد كل حساباته من جديد، متحولا بعقليته وبفكره 360 درجة، وقد تنحى من الدور المدافع عن الدين والعقيدة إلى دور المدافع بل الانبهار بالفكر الغربي والمدنية الغربية، لا بل والدعوة إلى ارتداء هذا الزي وخلع زي الآباء والأجداد. فكيف تم غسل عقلية الشاب قاسم أمين وهو المعروف بذكائه غير العادي وعبقريته الفذة؟ وأي ماركة صابون استعملت لأجل هذا الغسيل؟
يقول قاسم أمين في مذكراته (مذكرات قاسم أمين) إنه التقى في فرنسا بفتاة (وأغلب الاعتقاد أنها وضعت في طريقه لتقوم بالدور المطلوب) ونشأت بينه وبينها علاقة حميمة ولكنها كما وصفها (بريئة!) وكانت تساعده كثيرا وتعرفه على الكثير من العائلات والنوادي والصالونات الفرنسية التي فتحت له أبوابها ورحبت به أيما ترحيب، والبراءة التي يقصد بها بطلنا، أن علاقته مع هذه الفتاة التي كان لها تأثير عميق على الانقلاب في مجرى حياته لم تصل إلى حد الفاحشة، بمعنى ما العيب أن تنشأ علاقة بين شاب وفتاة علما أن هذه العلاقة لن تصل إلى حد الفاحشة؟ (وهذه أول ضربة للعقيدة والتقاليد).
لقد أتقنت هذه الفتاة دورها ببراعة، لدرجة أنها قلبت فكره رأسا على عقب ليصبح بعدها سهما في جعبة دعاة التبشير المجندين لمحاربة الإسلام، فقاسم خرج من بلاد تعيش تحت نير الاحتلال الأوروبي، وها هو في بلد أوروبية طالما سمع عن حضارتها وانبهر بها، وكل مغترب لا بد أن تنتابه مشاعر الغربة وهو بعيد عن وطنه ولكن هذه الفتاة أزاحت كل ستائر الغربة حوله وبثت في قلبه الشعور بالطمأنينة كما لو كان في وطنه وبيته، فالكل في بلاد الغربة يفتح له الأبواب وكل من عرفه أحبه ورحب به والفضل لهذه الفتاة التي أدت الدور بكل دهاء واتقان لتلعب في عقله وتجعله يقارن بين مجتمعه وما يفرزه من تقاليد وبين هذا المجتمع الراقي الذي يفرز مثل هذه العلاقات البريئة، ليخرج من تجربته مع هذه الفتاة بنتيجة نسفت كل ما تبقى لديه من شك وتردد، حيث خرج بنتيجة يستهجن فيها التشدد والتزمت الذي يسود مجتمعه معجبا إلى حد الانبهار بهذا المجتمع وعاداته وتقاليده الذي يعيش فيه شاب وفتاة تربطهما علاقة راقية ! نظيفة (في مفهومه هو) بريئة، فلماذا لا يكون هذا في مجتمعنا وما الذي سيحدث لو حذونا حذو هذا المجتمع، والمثل يقول (اسأل مجرب ولا تسأل حكيم)، وها هو قد خاض التجربة الناجحة! بنفسه ووصل الى هذه القناعة الدامغة ولا يحتاج الى من يقنعه بها، وقد دون هذه القناعة في كتابه الأول (تحرير المرأة) قائلا: ( إن هذا التحرير لن ينتج عنه إلا الخير ولن تنشأ عنه العلاقات الدنسة وإنما ينشأ عنه تقوية أواصر المجتمع وربطها برباط متين ) ليعود قاسم أمين إلى مصر بدماغ أوروبي محض يحمل فيه من الأفكار التي سيشعلها في مجتمعه المسلم، وقد أشعلها في أولى خطوة له في كتابه ( تحرير المرأة) الذي أحدث ضجة عنيفة حوله واستنكارا شديد اللهجة جعله يقبع في بيته وقد تسلل الخوف إلى نفسه من نتائج هذه الثورة العارمة التي أثارها، ولكن سرعان ما تبددت سحائب هذا الخوف لأن قاسما لم يكن وحده في هذا الميدان، بل هناك من وقفوا مساندين وداعمين ليزيلوا عنه كل خوف ورهبة من هذه العاصفة المجتمعية الرافضة لأفكاره.
فمن هم يا ترى هؤلاء المساندين؟ ومن هم هؤلاء الذين مدوا له يدا طولى في العون والمساعدة للمضي في طريقه؟ هذا ما سنتناوله في المقال القادم إن شاء الله.
(هذه السلسلة تلخيص لكتاب “قضية المرأة ” للأستاذ محمد قطب مع بعض التصرف).