دماؤهم مِداد وأقلامهم رصاص وقولهم الحق عند سلطان جائر
أميّة سليمان جبارين (أم البراء)
في عصر الرويبضة وفي زمن الأوغاد وعالم الأقزام من الحكام المنبطحين بأحضان الذل والهوان في سبيل المحافظة على عروشهم وقروشهم ونيل الرِضا من الحكّام الظالمين في العالم. حيث اختلفت الموازين وانقلبت رأسا على عقب فأصبح الحاكم الراعي للبلاد جلادها وأصبح المسؤول عن الأمن والأمان في بلداننا العربية المسلمة سببا في زرع الخوف وأسباب القتل والتشريد والنفي في أبناء الشعب. ولكن تأبى النخبة المُختارة من علمائنا ومشايخنا ودُعاتنا الصمت والخنوع لهذا الذل والهوان الذي يعُمّ ويطُمّ على جميع دولنا العربية المسلمة منذ نزوح الاحتلال الإنجليزي والفرنسي والإيطالي، الذي خلّف وراءه قادة ورؤساء قد تمت لهم عملية غسل أدمغة وتفريغها من كل ما هو إسلامي ووطني، فأصبحوا أعداء لشعوبهم أكثر من المحتل، وبغض النظر عن كيفية وصول هؤلاء القادة إلى سِدة الحكم إلا أنهم يثبتون لنا عند كل موقف محاربتهم لأبناء الشعب الذين يُطالبون بالإصلاح والعدل والحرية الحقيقية التي ضمنها لنا حكم الإسلام العادل.
أصبح الصراع بين هذه الثلة الفاسدة وبين رجالات الحق من الدعاة والعلماء المسلمين متأججا لا يخبو، لأن معركة الحق والباطل قائمة حتى قيام الساعة، أو حتى تحقيق الحق وإقامة دولته.
لذلك لا بد لهذه المعركة الفاصلة من رجال للحق لا يداهنون طاغية ولا يُساوَمون في دينهم أو عقيدتهم بل هم عمالقة في الثبات على المبدأ وقد صدق قول الله تعالى فيهم: (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا)، وأول هؤلاء العمالقة الذين سأتحدث عنهم باقتضاب في مقالتي هذه هو:
1- عملاق الفكر وشهيد كلمة الحق الشهيد سيد قطب رحمه الله الذي رفض الخنوع والذل لأكبر فراعنة مصر الحديثة المتستر خلف قناع القومية العربية بخطاباته الرنانة، العبد الخاسر جمال، فوقف شهيدنا القطب في العلم والفكر والوعي، السيد بدينه وعقيدته كالأسد الهصور بوجه الخاسر وزبانيته، وجعل مداد كتاباته من دمائه الزكية فتحوّلت نارا تحرق الباطل وتكشفه، ونورا يضيء لنا معالم الطريق وصدح بحنجرته الحرة عند إعدامه (اللهم إني مغلوب فأنتصر) وهكذا استشهد شهيدنا في سبيل إعلاء كلمة “لا إله إلا الله”، وكانت جملته المشهورة: (لن أعتذر عن العمل مع الله) خنجرا مغروسا في قلب كل معذبيه وجلاديه سينتزعه السيد الشهيد بيده عند قاض القضاة يوم لا حكم إلا حكم الله.
2- الشهيد مروان حديد أول الثائرين بوجه ظلم نظام البعث ورئيسه القاتل حافظ الأسد د. مروان حديد مهندس وشاعر وفيلسوف لم يرق له حكم البعث الطائفي الذي حذف من الدستور البند الذي يقول إن سوريا دولة إسلامية، وبدأ النظام البعثي بتحويل سوريا القسام وصلاح الدين إلى دولة بعثية شيوعية، وإقصاء أهل السنة عن أي منصب أو موقع حساس في الدولة، لا بل مضايقة ومطاردة كل إنسان سني ملتزم، فقام بطلنا الهُمام بإلقاء الدروس والمواعظ وحثّ الناس الوقوف بوجه هذا القرار والذود عن الدين والسنة في دولة طائفية علوية بامتياز، فحاول معه الأسد بشتى الوسائل والطرق أن يثنيه ويرشوه بالمناصب تارة وبالأموال تارة أخرى، على أن يترك جهاده في سبيل إعلاء كلمة الله، لكن رجلنا الحديدي رفض ذلك وثبت على موقفه وتمت مطاردته وسجنه ومحاكمته. وأثناء محاكمته قال له عرّاف حزب البعث آنذاك مصطفى طلاس: أنت عميل فأجابه الشهيد مروان حديد: نعم أنا عميل لله، فقال له ثانية مصطفى طلاس: أنت مأجور فأجابه الشهيد مروان أنا مأجور لله، فجُن جنون مصطفى طلاس وقال: حكمت عليك المحكمة بالإعدام فأجابه شهيدنا البطل بعنفوان وعزة المسلم وقوته: لو عرفتُ أن الموت والحياة بيدك لعبدتك من دون الله فضجت قاعة المحكمة بالتكبير والتصفيق. وقبيل إعدام الشهيد مروان حديد قال لأحد رفاقه بالزنازين: أنقل عني وقل للناس: إن هؤلاء الكلاب لم يحصلوا مني على كلمة واحدة تُشفي صدورهم.
وهكذا لم يستطع نظام الأسد النيل من عزيمة حديد وفي صباح الاثنين 6/6/1976، تم إعدام الشهيد مروان حديد بواسطة إبرة سامة في العنق مات على أثرها.
ومن اللافت للنظر أن النظام بقي خائفا من مروان حديد حتى بعد استشهاده فمنعوا أهله من المشاركة بجنازته أو زيارة قبره فيما بعد، لا بل وضعوا حراسة مشددة على قبره لسنوات عديدة، وتم سجن كل شخص يقترب من قبره. هذا هو شهيد المحنة الذي قال في إحدى قصائده:
لا تحزنوا يا إخوتي أنا شهيد المحنة
آجالنا محدودة ولقاؤنا بالجنة
3- الشيخ الداعية المصلح سلمان العودة (شهيد قيد الانتظار) حيث صدر الحكم بإعدامه، لأنه لا يهادن حكام العرب وبالذات حاكم السعودية، محمد بن سلمان، الذي يتبنى سياسة (من ليس معي فهو ضدي) وسياسة (من لا يطبل لي فهو عليّ) شأنه شأن باقي الحكام (غير الشرعيين) لدولنا العربية، وبما أن الشيخ العودة أحد المتحمسين لثورات الربيع العربي التي تنادي بالإصلاح السياسي والاجتماعي والاقتصادي، لأن هذه المطالب تتطابق مع عقلية وفكر الشيخ العودة كيف لا وهو يمّثل ثورة وعي وإصلاح مجتمعي يجب أن تطال كافة بلداننا العربية المسلمة لنرتقي ونعود في مصاف الدول المتحضرة. ولأنه يطالب بحكم الإسلام الوسطي وعدم الانهزام المخزي من قبل بعض الحكام، وهو من انتقد الحصار الخليجي لقطر، لكل ذلك ولأنه قال لا للعفن والفساد وطالب بالعمل على سن قوانين تسمح للجميع بالمساءلة دون تفرقة بين حاكم ومحكوم وقائد ومقود على مبدأ الفاروق عمر بن الخطاب من أين لك هذا؟! لكل ذلك تم سجن هذا الداعية المصلح هو والعديد من الدعاة الرافضين لهذا الوضع المخزي بدولنا العربية الإسلامية، أمثال الداعية سفر الحوالي وابنيه والعديد من مشايخنا ودعاتنا، لا يسمح المقام لذكرهم جميعا، وهم العظماء الذين قالوا كلمة حق عند سلطان طاغية جائر.
هذا غيض من فيض لمن قالوا لا للظلم والاضطهاد، هؤلاء الدعاة المصلحين الذين يكتبون لنا أفكارهم بمداد الدم ويستخدمون من أقلامهم رصاصا يُصوّب على كل غريب وبعيد وشاذ عن ثوابتنا الإسلامية والعروبية ويجعلون من أعمارهم جسورا نعبر عليها نحو تحقيق خلافة راشدة بإذن الله.