دماء في أولمبياد ميونخ.. 48 عاما على فشل ألمانيا والموساد!
علي سعادة
أثارت عمليات الاغتيال التي نفذها “الموساد” الإسرائيلي ضد شخصيات فلسطينية غضب فصائل فدائية في منظمة التحرير الفلسطينية التي دعت إلى القيام بعمليات انتقام مدوية للرد على عمليات الاغتيال وعلى القصف الإسرائيلي المتزايد لقواعد الفدائيين في لبنان، ولهدف آخر هو لفت انتباه العالم للقضية الفلسطينية ولمعاناة شعبها من الاحتلال الإسرائيلي.
وجاءت عملية اغتيال القاص والروائي الفلسطيني غسان كنفاني في تموز / يوليو، لتفتح الباب على مصراعيه لعمليات انتقامية مشابهة.
كان هناك عدة اقتراحات، مثل استهداف سفارات وقنصليات إسرائيلية، ولكنها رفضت، لتجنب الإحراج مع الدول المضيفة لتلك السفارات والقنصليات، وبرزت فكرة ميونخ، عندما رفضت اللجنة الأولمبية إشراك فريق فلسطيني في الأولمبياد المقام في ميونخ بألمانيا.
واقترح فخري العمري (أبو محمد)، مساعد القيادي في “فتح” صلاح خلف (أبو إياد) الدخول إلى القرية الأولمبية بدون إذن لاحتجاز الرياضيين الإسرائيليين.
وطلب “أبو أياد” الذي اقتنع بالفكرة من محمد داوود عودة (أبو داود) القيام بجولته في أوروبا، لشراء أسلحة، وأن يمر إلى ميونخ ويستطلع الأمر. وكان محمود عباس (أبو مازن) المسؤول المالي في ذلك الحين، وكانت مهمته توفير ميزانية للعمل إذا تم الاتفاق عليه.
لدى وصوله إلى ميونخ، حصل “أبو داوود” على خريطة للمدينة وكتيبات خاصة بالأولمبياد وقائمة بأسماء الفنادق وخطط سير المترو وكتيبات أخرى بهذا الشأن، واستقل المترو وذهب إلى القرية الأولمبية شمال المدينة واستطلع الأمر على الواقع.
كل ذلك تزامن مع محاولة اغتيال بسام أبو شريف رئيس تحرير مجلة “الهدف”، التي تصدرها “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين” بواسطة طرد مفخخ، وكذلك جرت محاولة اغتيال أنيس صايغ مدير مركز الأبحاث الفلسطيني، وأسفرت المحاولتان عن إحداث تشوهات في الرجلين اللذين لم يكن لهما أي علاقة بالعمل العسكري.
ومضت الخطة في طريقها فالتقى “أبو داود” و”أبو إياد” وفخري العمري في صوفيا عاصمة بلغاريا وناقشوا تفاصيل عملية ميونخ، مثل البلاغ الذي سيسلمه المهاجمون للسلطات الألمانية، والقائمة التي ستضم أسماء معتقلين فلسطينيين في سجون الاحتلال للمطالبة بإطلاق سراحهم مقابل إطلاق سراح الرياضيين، وتذليل العقبات بشأن جوازات السفر للذين سينفذون العملية وتأشيرات الدخول والإقامة وتأمين وصول السلاح، واتفق أن يكون محمود فقهي نزال الملقب بـ “تشي”، القائد الميداني للعملية.
وتبلورت خطوط تفصيلية للعملية: يدخل الفدائيون وهم يلبسون الملابس الرياضية عن طريق السياج، كأنهم فرقة رياضية عائدة بعد سهرة، ويقتحمون مقر البعثة الإسرائيلية والرياضيون نيام، وتم الاتفاق على أنه إذا كان عدد الرياضيين الإسرائيليين مع طاقم التدريب والإدارة يصل إلى 30، فإن 10 رجال يكفون لتنفيذ المهمة.
وجهزت للعملية جوازات سفر مزورة لدخول الفدائيين إلى ألمانيا، وتمت دراسة تفاصيل عملية التبادل المفترضة وتجهيز لائحة تضم أكثر من 200 أسير من بينها أسيرتان مغربيتان فرنسيتان اعتقلتا أثناء تهريبهما سلاحا لصالح “الجبهة الشعبية” وكذلك ريما عيسى وتيريز هلسة اللتان اعتقلتا في عملية خطف طائرة “سابينا 572” وكذلك كوزو أوكاموتو من “الجيش الأحمر” الياباني الذي نفذ مع رفاق له عملية مطار اللد، وضباط سوريون أسرتهم “إسرائيل” مع ضابط لبناني، وأضيفت للقائمة اسمَا أولركه ماينهوف وأندرياس بادر، من مجموعة “بادر ماينهوف” الراديكالية الألمانية، الموقوفان في السجون الألمانية.
لدى وصول الفدائيين إلى القرية الأولمبية، في 5 أيلول/ سبتمبر 1972 كانت أبواب القرية مغلقة، وتصادف مع وصول أفراد من البعثة الرياضية الأمريكية وهم سكارى، وأخذوا في محاولة تسلق السياج، واختلط الفدائيون بالأمريكيين وساعدوا بعضهم بعضا على تسلق السياج، بينما الجميع يضحك ويغني. يقول “أبو داوود” واصفا ذلك المشهد: “كان المنظر خياليا أن ترى هؤلاء الأمريكيين، الذين لا يشكون بالطبع أنهم يساعدون مجموعة من فدائيي أيلول الأسود الفلسطينيين في الدخول إلى القرية الأولمبية، يمدون أياديهم هكذا يأخذون حقائبنا المليئة بالأسلحة ويضعونها على الجهة الأخرى من السياج”.
في الساعة الثامنة صباحا أعلن عن نجاح خمسة مسلحين في التسلل إلى جناح البعثة الإسرائيلية وقتل أحد أفرادها واحتجاز 13 آخرين.
أحاطت الشرطة الألمانية بالمبنى، وتمركز القناصة على أسطح المباني المجاورة وبدأت المفاوضات مع الفدائيين بحضور وزير الداخلية الألماني الذي عرض عليهم في البداية مبادلة الرياضيين الإسرائيليين بعدد من المسؤولين الألمان ولكن رفض منفذو العملية هذا الطلب، وعرضت السلطات الألمانية مبلغا غير محدد من الأموال ولكن رُفض هذا العرض أيضا.
وطالب الفلسطينيون بتوفير طائرة تقلهم مع الرهائن إلى القاهرة، فأقلعت طائرتا هليكوبتر محملتان بالفلسطينيين والرهائن إلى مطار عسكري تابع لحلف شمال الأطلسي والذي كان قد نصب الكمين فيه.
بناء على اتصالات بين السلطات الألمانية والسلطات الإسرائيلية أرسلت تل أبيب مسؤولا كبيرا من جهاز الأمن الإسرائيلي لإعداد كمين لإطلاق سراح الرهائن حتى لو أدى ذلك إلى قتلهم كما صرحت بذلك رئيسة وزراء “إسرائيل” غولدا مائير في تصريحها أمام “الكنيست” الإسرائيلي.
احتل 12 من القناصة الألمان عددا من المواقع في المطار الذي كانت ساحته مضاءة بالأنوار الكاشفة، وأطلقوا النار على الفدائيين الفلسطينيين فرد الفدائيون بإطلاق النار عليهم، كما أطلقوا النار على الأنوار الكاشفة فساد الظلام مسرح العملية وتواصلت الاشتباكات بين الفدائيين الفلسطينيين والقناصة الألمان لمدة 3 ساعات.
وانتهت عملية الإنقاذ الفاشلة بقيام القناصة الألمان في النهاية بقتل 11 رياضيا إسرائيليا و5 من الفدائيين الفلسطينيين الثمانية بالإضافة إلى ضابط شرطة ألماني وطيار مروحية ألماني وتم تفجير مروحية.
أطلقت ألمانيا سراح الفلسطينيين الثلاثة الناجين في تشرين الأول/ أكتوبر 1972 إثر عملية خطف لطائرة تعود لشركة “لوفتهانزا” الألمانية كانت متوجهة من بيروت إلى ألمانيا.
في ردها على العملية، خططت “إسرائيل” ونفذت عمليات اغتيال لعدد من الأفراد الذين قيل إنهم كانوا مسؤولين عن العملية. وكشفت محاضر جلسات حكومة غولدا مائير واتصالاتها مع ألمانيا خلال وبعد عملية ميونيخ عام 1972 استثمار “إسرائيل” للعملية سياسيا وماليا أيضا.
وتكشف الوثائق السرية التي ظلت طي الكتمان حتى عام 2012، بعدما كشفت “إسرائيل” عنها أن العملية أصابت القيادة الإسرائيلية بـ”الذهول والإحباط”، كما عكست غضبها على ألمانيا وتنصلها من أي مسؤولية، حيث ضغطت عليها للقيام بعملية عسكرية ضد الفدائيين.
وتبين الوثائق أن بعض الوزراء الإسرائيليين اقترحوا في الجلسة الطارئة يوم وقوع العملية أن تبادر “إسرائيل” بخطف سفراء عرب لمساومة الفدائيين.
وانتهى اجتماع الحكومة الإسرائيلية بضرورة عدم التردد في مهاجمة الخاطفين وعدم الخضوع لمطالبهم، وقد قررت اللجنة إرسال رئيس جهاز “الموساد” الإسرائيلي وقتها تسيبي زمير إلى ألمانيا كي يشرف على العملية ويقوم بالتنسيق مع السلطات الألمانية.
وقامت مائير بدور محوري في منع تدهور العلاقات مع ألمانيا طمعا في استثمار العملية الفاشلة لصالحها.
وتشير الوثائق إلى أن “إسرائيل” أصيبت بالصدمة جراء قيام ألمانيا بإطلاق سراح الفدائيين الثلاثة الذين نجوا بعدما نجحت جماعة “أيلول الأسود” في خطف طائرة ألمانية.
وتشير الوثائق إلى أن رئيس “الموساد” وجه في جلسة الحكومة الإسرائيلية انتقادات قاسية للألمان بعد مراقبته للهجوم، وقال إن الشرطة الألمانية لم تستطع تحديد عدد الفدائيين إلا بعد انتهاء العملية وإن قائدي المروحيتين قتلا برصاص الشرطة.
وأضاف أن الألمان استخدموا مسدسات بدلا من بنادق قناصة وأنهم أحجموا عن تقديم الإسعافات الأولية للمصابين حتى ماتوا نزفا، كما لم يبذلوا الجهد المطلوب لإنقاذ الرهائن وأطلقوا النار بطريقة عشوائية، واصفا أداءهم بـ”الفاشل والمأساوي”.
وفي المقابل، أطلع زمير الوزراء الإسرائيليين على “شجاعة وحرفية” الفدائيين في إدارة المعركة، وقال: “هؤلاء ليسوا المخربين الذين نعرفهم، وقد تظاهر أحدهم بالموت مدة طويلة لكنه انتصب فجأة وأطلق نيرانه بدقة”. بحسب الوثائق التي كشف عنها في ذكرى العملية.
فتحت عملية ميونخ شهية الكتاب حيث صدرت عدة كتب تتناول العملية، وأنتجت عدة أفلام سينمائية ووثائقية حول العملية من أهم الأفلام: “ميونخ، 2005” فيلم أمريكي للمخرج ستيفن سبيلبرغ، “سيف جدعون، 1986” فيلم تلفزيوني كندي، “21 ساعة في ميونخ، 1976” فيلم تلفزيوني أمريكي بطولة فرانكو نيرو ووليم هودلن، “يوم واحد في سبتمبر، 1999″ فيلم وثائقي من إخراج كيفن ماكدونالد، و”ميونخ: انتقام الموساد، 2006” فيلم وثائقي بث على القناة الرابعة البريطانية.