إحرص على المحبرة حتى المقبرة يا جيل التغيير
صحيفة المدينة
ما أبلغ قول الإمام الشافعي: (ما زادني علمي إلا جهلا) أي أن الأنسان السويّ كلما زاد علمه كلما زاد شعوره أنه جاهل، وكلما اتسعت دائرة علمه كلما اكتشف سعة دائرة جهله، وكلما نهل من العلم كلما طلبه أكثر، فاحذروا يا جيل التغيير أن ينبت فيكم الغرور بسبب علمكم، أو أن يثور فيكم حسد الأقران كلما ارتقيتم في تحصيل علمكم، وتذكروا دائما قول الله تعالى: (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا)، (وهذا موسى عليه السلام إرتحل من الشام إلى مجمع البحرين في أقصى المغرب على بحر الظلمات إلى لقاء الخضر عليه السلام ليتعلم منه، فلما ظفر به قال له: (هل أتبعك على أن تعلمن مما عُلِّمت رشدا) – الكهف:66-. وكما نعلم فإن موسى عليه السلام كان كليم الله تعالى، وكان من أولي العزم من الرسل، وفي المقابل كان الخضر عليه السلام عبدا صالحا، ومع ذلك لم يجد حرجا كليم الله تعالى أن يتعلم من عبد صالح، ولم تمنعه مَنزلته كواحد من أولي العزم من الرسل أن ينشد الحكمة ولو اضطره ذلك أن يسافر في رحلة مغامرة من الشام إلى مجمع البحرين، (وهذا سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفوته من جميع خلقه قد أوصاه ربه سبحانه، وعلمَّه كيف يستنزل ما في خزائنه فقال تعالى: (وقل ربي زدني علما) –طه:114-، فلو كان في خزائنه أشرف من العلم لنبهه عليه ولندبه إليه) مما يعني أن الرسالة من عند الله تعالى التي أكرم الله تعالى بها سيدنا محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفوته قد قامت على العلم، ولأنها قامت على العلم فقد كانت أول كلمة في القرآن الكريم هي قول الله تعالى (اقرأ)، وقد كان أول قسم في القرآن الكريم هو قول الله تعالى (… والقلم وما يسطرون) فهي القراءة مفتاح الدخول إلى عالم العلم الذي هو أوسع من كل الدنيا، وهو القلم الذي هو أداة صيد العلم ونشره حتى يكون نعمة على كل الخلائق، ولذلك كم يلفت الانتباه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الحيتان في بحرها تدعو لطالب العلم، وكما أن هذه الرسالة من عند الله تعالى قد قامت على العلم، فيجب أن يقوم مشروع التغيير الذي تدعون إليه على العلم يا جيل التغيير، وإذا قام على العلم، فعندها سيسير مشروع تغييركم سوياً على صراط مستقيم، وإلا فإن الجهل قد يجعل مشروع تغييركم كمن يمشي مُكبّاً على وجهه، وهل يستوي حال من يمشي سويّاً على صراط مستقيم مع حال من يمشي مُكبّاً على وجهه فهو العلم الذي يجعل من مسيرة مشروع تًغييركم على بصيرة كما قال الله تعالى: (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة)، وهو العلم الذي يجعل من مسيرة مشروع تغييركم متأدبة بقول الله تعالى: (أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن)، وهو العلم الذي يجعل من مسيرة مشروع تغييركم مزينة بقول الله تعالى: (ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين)، وهو العلم الذي يجعل من مسيرة مشروع تغييركم قائمة على قول الله تعالى (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)، وليس على الأماني الباردة، والشعارات الجوفاء، والهمم المهزومة، والإرادات المريضة، والرؤية التائهة، والبوصلة الحائرة، والطموح المذبوح، والجهد الممزق، والانتماء الخجول، والتضحيات الموسمية، والعطاء الشكلي، والقول المنتفخ، والعمل الهزيل، فإن مسيرتكم إن وقفت دونها هذه العوائق، ستولد ميتة، أو ستموت في مهدها، أو سيسهل وأدها، أو سيسهل اجتثاثها ولو بعد حين، فيا جيل التغيير ارحموا أنفسكم ولا تُبَّذروا أعماركم وأوقاتكم وصحتكم وشبابكم على قيل وقال دافعه الجهل، ولا على كثرة سؤال دافعه المراء، ولا على إضاعة مال دافعه الوهَن، وماذا كان ينفع السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي جيشه الجرار لولا علم القاضي الفاضل في مشروع تحرير القدس والمسجد الأقصى، وماذا كان يَنفع الصادقين من سلاطين السلاجقة توالي انتصاراتهم لولا علم نظام الملك في مشروع ردع أطماع البيزنطيين، وماذا كان ينفع السلطان محمد الفاتح قوة مدافعه لولا علم آق شمس الدين في مشروع فتح القسطنطينية. لكل ذلك فلا عجب أن (كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يُسلمون شيوخا وكهولا وأحداثا، وكانوا يتعلمون العلم والقرآن والسنن، وهم بحور العلم، وأطواد الحكمة، ومعادن الفقه) فيا جيل التغيير القادم إلينا كقدوم الفجر الصادق بعد ليل طويل، وكطلوع البدر في الليلة الظلماء، وكميلاد الربيع من رحم قعقعة الرعود وزئير العواصف، يا جيل التغيير عليك بالعلم من المهد إلى اللحد، واطلب العلم ولو كان في الصين واحرص على المحبرة حتى المقبرة، (ولا تنصبن لك عذرا بما روي في بعض الأخبار: (مثل الذي يتعلم العلم في الصغر كالنقش في الحجر، والذي يتعلم في الكبر كالنقش على الماء) وقد سمع الأحنف رجلا يقول: (التعلم في الصغر كالنقش في الحجر، فقال الأحنف: الكبير أكبر عقلاً ولكنه أشغل قلبا) ففحص عن المعنى، ونبه على العلة). وقال رجل لأبي هريرة: (إني أريد أن أتعلم العلم وأخاف أن أضيعه، فقال أبو هريرة: كفى بتركك له تضييعا).