المسجد الأقصى في العقلية الصهيونية ومسائل الفرص التاريخية (10)
صالح لطفي- باحث ومحلل سياسي
تناول الكثير من المحللين التطبيع الجاري بين دولة الامارات وإسرائيل، وهو وإن كان في طبيعته ومحتواه سلام مصالح مُؤسس على الاقتصاد والأمن لكلا البلدين وفقا للرؤية ما بعد الكولونيالية في المنظور الامريكي الجمهوري المسيحياني، الذي يسعى لخلق سياج آمن للدولة “اليهودية” ضمن قاعدة جديدة لترتيب الأوراق في منطقة ما بعد سايكس بيكو تتوافق ومستقبل الدولة “اليهودية” التي ستعيش في محيط اسلامي سني تقضي مساراته السياسية والحياتية على ثنائية الدين والدولة، بحيث يكون الدين خادما للدولة ومقتضياتها تبعا للعقلية السنية القاضية بطاعة ولي الأمر المتغلب، وهو ما يتطلب بالمناسبة الإجهاز على كل حركة إسلامية تسعى للوصول إلى الحكم، سواء كانت ستصل بوسائل سلمية أو غيرها وخلق عوالم جديدة مما يسميه طغاة العرب ومن يواليهم، تجديد الخطاب الديني بما يتلاءم وتصوراتهم. وفي هذا السياق تلتقي الدولة “اليهودية”، والدول “السنية” والولايات المتحدة الامريكية حين يقودها الجمهوري المسيحياني المؤمن بعقيدة الالفية وعودة المسيح. فالولايات المتحدة ترعى دول الاستبداد ولطالما تحدث ترامب بصراحة عن هذه المواضيع والتزامه أخلاقيا وعقديا بحماية اسرائيل ودعمها والوصول بها الى مرحلة الاندماج بالمنطقة ضمن معطيات إسرائيل “اليهودية”.
في هذا الخضم تنتهز الدولة “اليهودية ” مجموعة المتناقضات التي يعيشها عرب ما بعد الربيع العربي، والانتكاسات المتحصلة من الثورات المضادة، وما أحدثته من ردة جماعية هتكت أستار الناس وجعلتهم شعوبا قددا، ففي حين تشظّت الهوية العربية الى هويات طائفية وما دون ذلك من الهويات، وتعمل الدول العربية الرجعية السنية بكل ما أوتيت من قوة على نزع الاسلام كمركب للهوية واستبداله بإسلام أمريكي، كان الشهيد سيد قطب قد حذر منه قبل اكثر من ستة عقود، تعمل اسرائيل بهدوء عبر آلة ضخمة من الأكاديميا والمدارس الدينية لبناء هوية جامعة ناظمها القدس والاقصى وحبرها السري الديانة اليهودية بما فيها من موروثات امتدت على مدى انتشار اليهود في العالم.
الاختراق البطيء الذي لا يتوقف..
بنت المؤسسة الاسرائيلية سياساتها المتعلقة بالقضية الفلسطينية ومكانتها في شرق اوسط سايكس بيكو، على ثلاثة قواعد ما زالت ثابتة عليها مع تغير الحالة السياسية والاحزاب الحاكمة، وهذه القواعد تقول باختراق المنطقة بهدوء وروية والاندماج الإقليمي، واحتواء المشروع الفلسطيني، وتحت هذه الكليات الثلاث تجري كافة السياسات الإسرائيلية، فلاءات مناحيم بيغن في كامب ديفيد اتجاه مستقبل القضية الفلسطينية هي امتداد للرؤية الصهيونية بمدرستيها العمالية والتصحيحية، وهذه اللاءات: لا لدولة فلسطينية مستقلة الى جانب دولة اسرائيل، لا لعودة اللاجئين، لا للاعتراف بحقوق الفلسطينيين التاريخية، لا لتحديد الاستيطان في الضفة الغربية، وأضاف عليها أن القدس مدينة موحدة والعاصمة الابدية لإسرائيل بما تحتويه من تراث اليهود واليهودية. ومنذ سبعينات القرن الماضي تعتمد المؤسسة الاسرائيلية في صراعها مع الفلسطينيين جَلدُ اليهودي لإبقائه تحت السيطرة وتجنيده في حربها المستمرة على الفلسطيني عبر تعبئة وشحذ مستمرين لا يتوقفان، يتخلل هذه العملية عمليات ترويج “اقتصادية” تتجاوب ورغبات وشهوات المجتمع المحكوم عبر فتح قنوات (اقتصادية) تعود بالفائدة المباشرة على هذه الجموع الخانعة والملتزمة بإملاءات المؤسسة الحاكمة، وهذه المؤسسة تمارس مع الاسرائيلي في صراعها مع الفلسطيني سياسات التخويف والترهيب إذ تخوف الاسرائيلي من الفلسطيني وتصوره أنه إرهابي رافض للسلام وتمارس معه بشكل مستمر سياسات جز العشب التي اخترعها الاحتلال، وتهدف إلى قتل القيادات الفلسطينية، ودوام الحصار وتدمير البنية الاجتماعية والسياسية والعسكرية وبالطبع الاقتصادية، وهو ما يتطلب بين الحين والآخر حربا على غزة وحملات اعتقال دائمة لا تتوقف في الضفة الغربية، وممارسات الارهاب اليومي في القدس، ولضمان استمرار هذه السياسات وضمان صمت العالم والعرب، يعتمد الاحتلال على الدعم الأمريكي غير المشروط.
عودة الى ما بدأت به هذه المقالة اربط القارئ الكريم والقارئة الكريمة بما ذكرته آنفا من سياسات الكليات التي تعتمدها المؤسسة الاسرائيلية الى الهوية، وكيف تعمل المؤسسة الاسرائيلية على إعادة انتاجها ضمن متطلبات المرحلة التي تعيش في ظل تفكك العرب والمسلمين.
تعتمد الهوية الاسرائيلية على اليهودية كدين وكقومية وتتداخل كلاهما، بحيث لا يمكن التفريق بينهما، وهذا الدمج يشكل عمليا- في تصوري وهذا ليس هنا طرحه- منذ تولي نتنياهو الحكم أحد أهم البدائل المعمول عليها بعد فشل نظرية الصهر التي عمل عليها المعسكر العمالي الذي حكم البلاد بين سنوات 1948 و1977، وتعتمد هذه النظرية “الخلاقة” على جعل الدين قومية والقومية دين، وهي حالة موجودة في منطقتنا في الحالتين الايرانية والتركية، ولأن كل عملية دمج تحتاج الى شواهد وحضور يتم من خلاله تكثيف هذه الهوية فإن هذه الشواهد تشكل الصمغ الجامع للهوية الذي يكون الناظم للعقلية والذهنية، من جهة أخرى ولأن القدس والاقصى هما في لب الموروث اليهودي فهما الناظم لهذه الهوية من جهة والمعزز لتكويناتها المختلفة من جهة أخرى، إذ لا خلاف بين القبائل اليهودية على قداسة القدس والاقصى “الهيكل”، وبذلك يكون الاقصى “الهيكل” والقدس هما الناظمان للهوية الصلبة، إسرائيليا، وتكون اليهودية كعقيدة ووطن حبرها السري.
في هذا السياق تستثمر إسرائيل التحولات الجارية في هويات عالم العرب، من هويات صلبة ومرنة الى هويات سائلة تجلت بوضوح بعد ثورتي المعلومات وشبكات التواصل الاجتماعي، وما تفرضه من هويات متجددة سائلة تؤثر في البنية الاجتماعية والنفسية لجيل الالفية الذي سيقود المستقبل القادم، وهذه الهوية السائلة تعتمد أساسا على المتغيرات الثقافية والاقتصادية والتمدد، وهو ما تحسنه اسرائيل بفعل تطوراتها التقنية في مجالات “السايبر” والأمن العام ومجالات الاقتصاد، فتعقد اتفاقيات مع محيطها مخترقة إياه من جهة معززة هويتها الداخلية من جهة أخرى، ومتقدمة خطوات الى الامام لتثبيت وجودها في القدس والاقصى ضمن معادلات جديدة فرضتها ظروف وعلاقات وسياسات، إذ المعادلات القائمة اليوم تحت الرعاية الامريكية تقتضي تغليب منطق المصلحة ومصلحة نظم الاستبداد وبقائها تسبق القدس والاقصى والانسان العربي.