القرضاوي .. إمام صناعة الوعي الحركي في الجزائر (2من2)
عربي21 ـ حسان زهار
أثار رد الدكتور يوسف القرضاوي على التهنئة التي وجهها له رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الدكتور أحمد الريسوني، ردود فعل كبيرة في الساحة الإسلامية، حيث جاءت رسالة الشيخ القرضاوي بمنزلة رسالة وداع، بالنظر إلى تقدمه في السن، لكنه كان متماسكا ومسترسلا في حديثه عن واقع وحال الأمة.
“عربي21″، تفتح ملفا عن فكر الشيخ القرضاوي، وإسهاماته في قراءة وفهم الفكر الديني في المشهد الديني المعاصر..
يواصل الكاتب والإعلامي الجزائري حسان زهار في الجزء الثاني والأخير من تقريره الخاص بـ “عربي21″، تسليط الضوء على إسهامات الشيخ يوسف القرضاوي في تطوير الخطاب الإسلامي في الجزائر خلال النصف الثاني من القرن العشرين.
الفقيه السياسي
لا تختلف نظرة الأستاذ تهامي ماجوري، الباحث في الفكر الإسلامي، من حيث كون أنه إذا ذكرت علاقة الشيخ القرضاوي بالجزائر، فإنها لا يمكن أن تنفصل عن علاقة الشيخ محمد الغزالي رحمه الله بها، بحيث كانا كالأخوين اللذين يمثلان العاطفة الواحدة تجاه الجزائر وشباب الصحوة بها.
ويوضح تهامي ماجوري أن تأثير الشيخ القرضاوي على الصحوة الإسلامية في الجزائر وترقية خطابها، كان بسبب حضوره كواحد من وجوه الدعوة الإسلامية في العالم، ورمز من رموزها، وبخطابه الوسطي المعتدل، وكذلك بتوجهه الديني المسيس، حيث جمع بين دور الفقيه الوسطي المتزن والمناضل من أجل التمكين لدين الله سبحانه، ومن بين الكتب التي كان لها الأثر البالغ في حياة شباب الصحوة في كل العالم ومنهم الشباب الجزائري، كتابَيْ: “فقه الزكاة” الذي يعد موسوعة متفردة في بابه، و”الحلال والحرام في الإسلام” هذا من جهة الفقه، ومن وجهة الخطاب الإسلامي المسيس فيتصدر كتاب “الحلول المستوردة وكيف جنت على أمتنا”، مشيرا إلى أن ما عزز تأثير الشيخ القرضاوي على الصحوة الإسلامية بها، هي كتبه التي كانت تطبع وتوزع على المستوى الوطني داخل الجزائر، من قبل مطبعة محمد الصالح رحاب رحمه الله في ثمانينيات القرن الماضي، أي في عز الصحوة، وبداية الانفتاح الثقافي في البلاد.
تأثير حركي كبير
ويشرح الأستاذ تهامي ماجوري في حديثه لـ “عربي21″، أن تأثير الشيخ على شباب الصحوة في الجزائر كان تأثيرا حركيا، بسبب خطابه التعبوي الفقهي، أكثر منه تأثيرا فكريا. فالتأثير الفكري كان للشيخ الغزالي أكثر وأوضح. وذكر أن المحطات الكبرى لزيارات الشيخ القرضاوي للجزائر كانت مع ملتقيات الفكر الإسلامي، ثم مع بعض الدعوات التي يتلقاها في مناسبات قليلة، خاصة وكان آخرها مشاركته في ملتقى الشيخ محمد البشير الابراهيمي الذي نظمته جمعية العلماء، وحضوره لتأسيس مكتب القدس الدولية التي جمد بعد ذلك. وفي جميع هذه المناسبات كانت تنظم له أنشطة مع الطلبة في الجامعات والأحياء الجامعية، وكذلك الشباب في مساجد الأحياء.
ويذكر الأستاذ ماجوري أنه عندما غادر الشيخ محمد الغزالي الجزائر، كانت هناك نية لدى السلطة أن يحل الشيخ القرضاوي محل الشيخ الغزالي على رأس جامعة الأمير عبد القادر الإسلامية بقسنطينة، ولكن يبدو أن الأمر تعطل مع التحولات التي شهدتها الجزائر في 1988/1989، والتي عرفت فيها البلاد انتفاضة أكتوبر، وتحقيق الانفتاح السياسي، والتي لم تستقر إلا بعد عقد من الزمان، كانت مليئة بالصراعات الدموية. ومع ذلك بقيت علاقة الشيخ القرضاوي بالجمهور الجزائري ونخبه الدعوية قائمة ولم تنقطع، واستمرت في أوعية أخرى، عبر الاتحاد العالمي للعلماء المسلمين والعلاقات الخاصة.
التطعيم ضد الاستبداد والتكفير
أما بالنسبة للمفكر الإسلامي الجزائري الدكتور عمار جيدل، فإن الصحوة الإسلامية في الجزائر أصيلة وروافدها المرجعية مستمدّة من الخبرة المعرفية والتربوية والعلمية لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، ممثّلة في مصنفات رجالها، وعلى رأسهم العلامة الرئيس عبد الحميد بن باديس، والعلّامة العَلّامة الجزائري الميّز الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، والعلامة الشهيد العربي التبسي، ومن ورث خطّهم التربوي والعلمي، وأمثلهم في الحفاظ عليه، عبد اللطيف سلطاني، وأحمد سحنون، وأحمد حماني، وجمعية التهذيب والقيم برئيسها المرحوم الهاشمي التيجاني، وغيرهم من علماء الجزائر رحمهم الله جميعا، وكان للصحوة دعامة فكرية ممثّلة بالأستاذ مالك بن نبي (رحمه الله)، وظهر هذا الفكر بشكل آخر على يد الأستاذ أحمد عروة رحمه الله، هذه هي الجزائر، التي تفاعلت إيجابيا مع الخبرة الميدانية والمعرفية المشرقية.
ويعدّ الدكتور عمار جيدل، أن الشيخ القرضاوي من أغزر علماء زماننا إنتاجا معرفيا، كما أنه يعبّر عن حضور قوي في مشهد التدافع المعرفي والفكري في العالم الإسلامي، وكان هذا الجُهْدُ مبكرا، فقد عرف الجزائريون الشيخ القرضاوي من خلال مؤلفاته، قبل أن يزور الجزائر، لهذا يطرح الدكتور عمار جيدل لـ “عربي21″، جملة من المعطيات التي يتعيّن التوقّف عندها:
ـ خطاب الأستاذ القرضاوي نشأ واكتمل في خضم الصراع في البلاد الإسلامية، وعايش كثيرا من المحن التي مرّ بها عالمنا الإسلامي، وخاصة في ظل سلطة الاستبداد وما يتمخّض عنها من ردود فعل غير محمودة العواقب، فكان خطابه بمنزلة تطعيم المجتمعات الإسلامية ضد خطرين قاتلين: الاستبداد، والتكفير، والاستبداد في حقيقة الأمر ما هو إلّا لون من الكفر (الجحود) بالحق في الحرية، والحق في بناء الدولة والحفاظ عليها، فكان خطابه يتلمّس طريقا وسطا يحافظ على المكاسب في ظل طريق مليء بالقنابل الموقوتة، التي يزرعها الاستبداد والفساد المَبْنِيُّ على التَّتَرُّف، الذي هو الأب الروحي للعنف والتطرّف.
ـ يمثل الدكتور يوسف القرضاوي على مستوى الخطاب، رائدا من رواد الوسطية الإسلامية العالمية، فهو أحد أساطينها، أما تقويم حضورها في المزاولة فهذا أمر آخر. اجتهد الرجل في الخلوص بالأمة إلى مراشدها المؤسسة على الاعتدال في التصوّرات والتصرّفات.
موسوعية المعرفة وشدة التأثير
وحول المحطات التي مر عليها تعرُّفُ الجزائريين على الشيخ القرضاوي، فيجملها الدكتور عمار جيدل في ما يلي:
ـ التعرّف على القرضاوي من خلال مصنفاته المقدّمة في حل الإشكالات المعاصرة، والنوازل العقدية والفقهية والفكرية، فكان من نتائج ذلك جملة من المصنفات أشهرها: الحلال والحرام في الإسلام، فقه الزكاة (رسالته للدكتوراه)، والإيمان والحياة، والعبادة في الإسلام.
ـ مثّلت كتبه التي يمكن أن تصنّف في خانة التدافع الفكري، وبيان بيّنات الحل المنتظر، ويتجلى ذلك في جملة من المصنفات، منها: الحلول المستوردة، والحل الإسلامي فريضة وضرورة، وبيّنات الحل الإسلامي وشبهات العلمانيين والتغريبيين. والإسلام والعلمانية وجها لوجه.
ـ وكتب تصنّف في مقام الترشيد والتربية الإيمانية والفكرية، ولعلّ على رأسها: الصحوة الإسلامية وهموم الوطن العربي والإسلامي، وفي فقه الأولويات دراسة جديدة في ضوء الكتاب والسنة، ومن أجل صحوة إسلامية راشدة تجدد الدين وتنهض بالدنيا، وملامح المجتمع الإسلامي الذي ننشده. وأولويات الحركة الإسلامية في المرحلة المقبلة.
ـ مصنفاته في الإجابة عن الانشغالات الراهنة المتجددة في البلاد الإسلامية وخارجها، فكان من ثمراتها: فقه الأقليات المسلمة، ومن فقه الدولة في الإسلام، وتاريخنا المفترى عليه.
ولهذا عرف الجزائريون القرضاوي من خلال مصنفاته المشتهرة المنتشرة الغنية بخط الوسطية والاعتدال في صياغة الخطاب وتلمّسه في شعاب الحياة.
ويخلص الدكتور عمار جيدل إلى أن الشيخ القرضاوي كان له اتّصال مباشر بالطلبة والعامة في الجزائر محاضرا ومدرّسا، وأغلب الطلبة الذين تتلمذوا له في الجامعة أخذوا عنه “مباحث الاجتهاد في أصول الفقه”، التي كان كثير التركيز فيها على تلبية حاجات المسلم في عصرنا، فكان أنموذجا للانخراط في مسلك تفتيش عن حلول شرعية لمشكلات العصر، فكانت في الغالب متعلّقة بتأكيد الخصائص العامة للإسلام، والاجتهاد. فضلا عن مشاركته في بعض ملتقيات الفكر الإسلامي التي كانت تعقد في الجزائر قبل ثلاثة عقود، والتي كان متفاعلا معها بشكل إيجابي مع الصحوة الإسلامية الجزائرية، فيحاضر حيث سمحت الظروف في الأماكن العمومية والجامعات، ويخص العامة بمحاضرات تشف عن خط الوسطية والاعتدال، والصحوة في الجزائر كانت تبادله ذات الشعور من جهة الاستفادة من التدفّق المعرفي العالي، وتتفاوت مواقفها من حيث الاستفادة من تجربته الميدانية ومسلكه في فض النزاعات في البلاد الإسلامية.