مستقبل الاتحاد الأوروبي في ضوء التحدّيات المستجدة (2من2)
الكتاب: “النظام السياسي للاتحاد الأوروبي”
الكاتب: جان لوي كرمون، ترجمة د. محمد عرب صاصيلا
الناشر: “الهية العامة السورية للكتاب (وزارة الثقافة)، الطبعة الأولى 2020
(عدد الصفحات: 270 من الحجم الكبير)
يواصل الكاتب والباحث التونسي توفيق المديني، عرض كتاب “النظام السياسي للاتحاد الأوروبي”، للكاتب جان لوي كرمون، وترجمة د. محمد عرب صاصيلا، ويركز في هذا الجزء على الطبيعة السياسية والقانونية للاتحاد الأوروبي وعلاقته بالمجتمع المدني.
علاقة الاتحاد الأوروبي مع المجتمع المدني
من الممكن أن يبدو غريباً أن تكون مجموعات الضغط (اللوبي) في بروكسيل مهمة في نظر وسائل الإعلام أكثر من الأحزاب السياسية الأوروبية، وأن ينافس عددها عدد مجموعات الضغط في واشنطن. وبرغم ذلك، فإن هذا الأمر واقعٌ يُفسر تاريخياً.
كانت الحريات الأربع التي حددتها معاهدة روما: حرية انتقال السلع، الخدمات، الرساميل، والعمال، خاصة بالمجتمع المدني قبل كونها مخصصة للنظم السياسية للدول، وقد نظمت، بالنتيجة، نشاط المنتج والمستهلك قبل نشاط المواطن. ونظراً للطابع الاقتصادي الذي اكتسته الجماعة الأوروبية منذ مدة طويلة، لم يكن مفاجئاً أن تكون حرية انتقال الأشخاص آخر ما دخل حيز التطبيق بين هذه الحريات الأربع. ذلك لأنها تُخفي بُعدا سياسياً.
سبق توقيع معاهدة ماستريخت، بالتأكيد، بعض الأعمال الرمزية التي كانت إشارات مُعلنة لقدوم المواطن. هكذا كان حال العلم، النشيد، جواز السفر، وقد أتت العملة لتُضَاف إليها: إنها الوحدة ضمن التعدد. إلا أن انتخاب البرلمان بالاقتراع العام المباشر، المقرر عام 1976، والمطبق بدءًا من عام 1979، هو الذي أثار، بشكل خاص، ظهور قوى سياسية أوروبية، في شكل أحزاب برلمانية.
تُظهر المادة 11 من معاهدة الاتحاد الأوروبي اهتماماً بانفتاح الاتحاد على المجتمع المدني. فتأمر المؤسسات بإقامة حوار مفتوح وشفاف ومنتظم مع الروابط التمثيلية. وتؤكّد المعاهدة الخاصة بعمل الاتحاد الأوروبي أحكاماً عدة موجودة في علاقتها بالمواطنين، مثل الحق في الوصول إلى الوثائق، دور الوسيط الأوروبي، حق تقديم العرائض، وحماية المعطيات ذات الطابع الشخصي. وتوضح المادة 17 أنَّ “الاتحاد يحترم الوضع القانوني الذي تتمتع به، بموجب القانون الطبيعي، الكنائس والجمعيات أو الجماعات الدينية في الدول الأعضاء، ولا يأخذ تجاهها حُكماً مُسباً”. وهو ما ينطبق أيضاً على المنظمات الفلسفية وغير الدينية. الأمر الذي لم يمنع البرلمان الأوروبي من استقبال بابا الكنيسة الكاثوليكية مرتين.
يُعدّ مؤهلاً لتلقي الشكاوى من أي مواطن، ولديه القدرة على فتح تحقيق، ومراجعة المؤسسة أو الجهاز المعني، مع تقديم توصيات له، إذا لاحظ وجود حالة إدارية سيئة لديه. كما يمكنه توجيه تقرير إلى البرلمان الأوروبي، الذي يستطيع تقرير التدخل على الصعيد السياسي.
في الميدان الحسّاس لحماية المعطيات الشخصية، كلّفت المادة 16 من المعاهدة الخاصة بعمل الاتحاد الأوروبي البرلمان والمجلس الوزاري ضمان احترام الحريات والحقوق الأساسية للأشخاص الطبيعيين، ولاسيما حماية حيواتهم الخاصة، وذلك عن طريق التشريع العادي. ويكف مراقب أوروبي لحماية المعطيات، يساعده مراقب مساعد، بممارسة هذه المهمة بشكل خاص، ولاسيما حين تعمد أجهزة الاتحاد إلى معالجة معطيات شخصية.
يقول الكاتب جان لوي كرمون:”اجتازت الديمقراطية التشاركية عتبة مهمة بعد إحداث المادة 11، الفقرة 4، من معاهدة الاتحاد الأوروبي، المستوحاة من المؤتمر حول مستقبل أوروبا، حق المبادرة الشعبية. وبمقتضى نصّ هذه المادة، فإن “عدداً من مواطني الاتحاد، لا يقلّ عن المليون، من رعايا عدد مهم من الدول الأعضاء، يستطيع اتخاذ المبادرة إلى دعوة المفوضية الأوروبية، في إطار اختصاصاتها، لتقديم اقتراح ملائم حول مسائل يقدِّر هؤلاء المواطنون أن عملاً قانونياً للاتحاد ضروري لأجل تطبيق المعاهدات”(ص 216 من الكتاب).
الطبيعتان السياسية والقانونية للاتحاد
منذ انعقاد مؤتمر لاهاي، عام 1948، الذي نظّمته، برئاسة ونستون تشرشل، حركات قادمة من المجتمع المدني، تَعَارَض، في اتجاهين، الداعون إلى إقامة دولة اتحادية، المفتونون، في ذلك الحين، بنجاح الولايات المتحدة الأمريكية، والداعون إلى إقامة اتحاد يحترم سيادة الدول. وللتغلب على هذا الانقسام ابتكر كتبه تصريح شومان، بإيحاء من جان مونيه، مفهوم الجماعة، وأجلوا إلى المدى الطويل منظور الدولة الاتحادية.
كانت كلمة “جماعة”، المستعملة أصلاً للإشارة إلى جماعة الفحم والفولاذ، تنطوي، بحسب رأي أحد موجديها الرئيسين، الفقيه بول رويتر، على رمزية كونها تخلو ـ إلا في الموضوع المتعلق بالزواج ـ من دلالة قانونية. وكانت، في الوقت نفسه، تعبر جيداً عن اهتمام بالتضامن الذي كان يحرك أصحاب المشروع. من هنا كان النجاح الذي حققه امتدادها في معاهدة روما، عام 1957، لترتبط بالسوق المشتركة وبالطاقة الذرية. إنما، فيما بعد، ومنذ أن بدأت معاهدة ماستريخت في رسم ملامح اتحاد سياسي، بدت الكلمة غير ملائمة لهذا الموضوع الجديد. الأمر الذي سوغ لجاك ديلور التساؤل عن طبيعة أوروبا، التي وصفت حينذاك بأنها “موضوع سياسي غير مُعرف الهوية”.
ونظراً لحلول تعبير “الاتحاد”، تدريجياً، محل تعبير “الجماعة” جاء الرئيس السابق للمفوضية الأوروبية، الذي لا حظ المكانة المهيمنة التي تشغلها حكومات الدولة الأعضاء في هذه البُنية من النمط الاتحادي، ليقترح، حينئذ، فكرة وصفه بأنه “اتحاد دول ـ أمم” إلا أن الجدل يتوسع اليوم في اتجاهين معرفيين، بدل الانغلاق، فأصبح سياسياً بانتظامه حول مفهوم القوة، وبقي، في الوقت نفسه، قانونياً فيما يتعلق بمفهوم الاتحاد.
يقول الكاتب جان لويكرمون:”ينقسم المراقبون في نظرتهم إلى “تصاعد قوة” الاتحاد الأوروبي بين مفهومين. فيرى بعضهم أنَّ الأمر يتعلق بـ “قوة مدنية”، أي بقوة اقتصادية متناغمة مع نتائج على تطور المجتمع المدني. والمقصود بذلك، بعبارات أنجلوسكسونية، “القوة الناعمة” بالمقارنة مع “القوة الصلبة ، التي تتميز ببُعديها الدبلوماسي والعسكري.وكان عالم السياسة الأمريكي روبير كاغان قد اقترح ، في أثناء حرب الخليج الثانية، المقارنة بين أوروبا، التي شبَّهها بآلهة الجمال فينوس، و الولايات المتحدة الأمريكية، التي وصفها بإله الحرب مارس.وينتهي بعضهم الآخر، الأفضللاإلهامًا، إلى مقارنة الاتحاد الأوروبيبطسويسرا كبرى”(ص 239 من الكتاب).
يتساءل الخبراء في السياسة الدولية عن قدرة الاتحاد الأوروبي على لعب دور استراتيجي على المسرح الدولي ما دام لا يملك قوة على صعيد الكرة الأرضية. فهل تسمح له قدرته ، من دون بلوغ مستوى الدولة العظمى، كالولايات المتحدة والصين، بأن يكون له وزن فاعل في المفاوضات التي شُرِعَ فيها في مجموعة الثماني دول G8 أو مجموعة العشرين G20 .
لهذا، ينبغي له امتلاك قيادة حقيقية. الأمر الذي يتطلب أن يسمح رؤساء دول وحكومات الدول الأعضاء للرؤساء الدائمين للمجلس الوزاري وللمفوضية، حتى للممثل الأسمى للسياستين الخارجية والأمنية المشتركة، بإمكان الكلام بصوت واحد في المنظمات والمؤتمرات الدولية. ومن دون انتظار أن تتعب الولايات المتحدة والدول الصاعدة من الحضور المزعج لوفود ثمان وعشرين دولة عضواً في المحافل الدولية… كان ريمون أرون يكتب في مذكراته إنَّ “توسّع المسرح الدولي غَيَّرَ مقياس القوة. فأمة ما، كبيرة في الإطار الأوروبي، تصبح صغيرة في الإطار العالمي”.
أخلى الميل إلى المحاكاة، الذي قاد “الآباء المؤسسين” لأوروبا، المفتونين غداة الحرب العالمية الثانية بنجاح الولايات المتحدة الأمريكية، تدريجياً، مكانه لنزعة تشكيك في أوروبا أعادت الطموح الأولي إلى مجرد اتحاد بين دول. من هنا نشأ نوع من التحريم الذي يحيط بتحليل طبيعته عبر الرجوع إلى النزعة الاتحادية.
برغم ذلك، يبدو من الصعب استبعاد هذا الأمر، ولا سيما في الموضوع النقدي، وفي الميادين الأخرى التي يُمارس فيها الاتحاد اختصاصاً حصرياً. كذلك، فإن جاك ديلور كان لديه إحساس مُسبق دفعه إلى وصفه بأنه “اتحاد دول ـ أمم”، بعد التردد في الوصف الذي ينبغي إعطاؤه “للموضوع السياسي”.