دراسة علميَّة: إحراق المسجد الأقصى 1969 وتأثيره على العالم الإسلامي كما تناولته الوثائق البريطانية
بالتزامن مع الذكرى السنوية 51 لجريمة احراق المسجد الاقصى المبارك، والتي تحل اليوم الجمعة، أصدر مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، دراسة علميَّة محكَّمة حول 154 وثيقة من الوثائق البريطانية غير المنشورة التي سُمح بالاطلاع عليها بعد ثلاثين عاماً من كتابتها، والمتعلقة بإحراق المسجد الأقصى يوم 21/8/1969 وآثاره المباشرة، وهي وثائق تقدم معلومات مفيدة وأضواء جديدة ورؤى يجدر أن يطلع عليها الباحثون والمهتمون. ومع ذلك، يجب أن يُنظر إليها كأحد مصادر المعلومات التي يتم تحليلها ونقدها وتقييمها في ضوء المصادر والمراجع الأخرى المتوفرة. كما يقول المركز.
أدت صدمة إحراق الأقصى إلى تكاتف عاطفي ومعنوي في العالم الإسلامي. ولم تخرج ردود فعل الجماهير وقياداتها السياسية عما هو متوقع، فقد حدثت موجة مؤقتة من الغضب العارم والمظاهرات، وتعالت الدعوات للجهاد، في الوقت الذي قامت فيه الحكومات بالحملات الإعلامية وعقد المؤتمرات. ونجح الأردن بالتعاون مع العالم العربي والإسلامي في استصدار قرار من مجلس الأمن بإدانة السلطات الإسرائيلية، لكن الانعكاس الأبرز هو أن إحراق الأقصى دفع إلى إنشاء منظمة المؤتمر الإسلامي، التي هي أكبر منظمة تمثيلية للمسلمين في العالم.
وجاء في مقدمة الدارسة العلمية الصادرة عن “مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات”، أن مدينة القدس المسجد الأقصى، أول قبلة للمسلمين، وثالث أقدس مسجد في الإسلام. بعد حرب 1948، التي أسفرت عن خسارة 77% من فلسطين الانتدابية، استمرت الضفة الغربية (بما في ذلك القدس الشرقية) تحت حماية الجيش الأردني، ليتم بعد ذلك توحيدها رسمياً مع الأردن في نيسان/ أبريل 1950. وفي 5/6/1967، شنت القوات الإسرائيلية “حرب الأيام الستة” واحتلت الضفة الغربية، وقطاع غزة، وسيناء المصرية، ومرتفعات الجولان السورية. ومنذ ذلك الحين، أصبح وضع القدس ومستقبلها من أكثر القضايا حساسية وتعقيداً في القضية الفلسطينية برمّتها. تتمتع القدس بأهمية دينية وروحية كبيرة للمسلمين والمسيحيين واليهود. وتشكل منطقة المسجد الأقصى، الذي يطلق عليه اليهود اسم “جبل الهيكل” في شرقي القدس محط تركيز رئيسي للمسلمين واليهود، حيث إنها تعدّ أقدس مكان لهم في فلسطين.
بناء على القانون الدولي ومواثيق الأمم المتحدة، فإن شرقي القدس أرض محتلة من قبل المؤسسة الإسرائيلية بشكل غير قانوني، وليس من حق قوات الاحتلال أن تنتهك الحقوق والحريات المدنية لفلسطينيي شرقي القدس. ولكن على الرغم من ذلك، قامت السلطات الإسرائيلية في 11/6/1967 بتدمير حي المغاربة، وهو وقف إسلامي ملاصق للقسم الجنوبي الغربي من المسجد الأقصى، وتحويله إلى ساحة لليهود يتجمعون فيها لزيارة الجدار الغربي للمسجد الأقصى، أو ما يطلقون عليه اسم “حائط المبكى”.
وفي 27/6/1967 قامت سلطات الاحتلال الإسرائيلي في إجراءٍ أحادي الجانب، بتوحيد شرقي القدس وغربي القدس تحت إدارتها المدنية لتبدأ بعدها مخطط حفرياتٍ مكثف وهادئ في جنوب المسجد الأقصى وجنوبه الغربي. كما استمرت في عمليات مصادرة وتدمير منازل المسلمين والأوقاف الإسلامية، بالرغم من كون العديد منها ذو قيمة تاريخية كبيرة، غير عابئة بكل الاحتجاجات والإدانات المحلية والدولية. وقد أقلقت الانتهاكات الإسرائيلية والأهداف النهائية التي تصبو إليها سلطات الاحتلال كل الأوساط والمحافل، وخصوصاً في العالم الإسلامي. وفي 21/5/1968 أصدر مجلس الأمن الدولي القرار رقم 252 والذي أعلن بموجبه أن “جميع التدابير التشريعية والإدارية والإجراءات التي اتخذتها إسرائيل، بما في ذلك مصادرة الأراضي والأملاك، التي من شأنها أن تؤدي إلى تغيير في الوضع القانوني للقدس هي إجراءات باطلة ولا يمكن أن تغير في وضع القدس”. وعلى الرغم من ذلك، استمرت السلطات الإسرائيلية في مخطط التهويد الممنهج لمدينة القدس بلا هوادة، ضاربة بعرض الحائط معارضة واستنكار المجتمع الدولي. وقد أدى التجاهل الإسرائيلي الصارخ إلى ظهور مخاوف حقيقية حول مستقبل مدينة القدس. وفي ظلّ هذه الأجواء القاتمة وقع إحراق الأقصى.
وبحسب “مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات”، فإن هذا البحث يدرس 154 وثيقة غير منشورة من الوثائق البريطانية المكوّنة من برقيات ورسائل وتقارير تم تبادلها بين وزارة الخارجية والسفارات البريطانية المختلفة في الأسابيع التي تلت عملية الحرق العمد للمسجد الأقصى. وهي توفر معلومات مفيدة وأضواء جديدة للباحثين والمهتمين حول إحراق المسجد الأقصى في آب/ أغسطس 1969 وتداعياته المباشرة. وتكتسب هذه المراسلات والتقارير البريطانية أهمية خاصة لأنها كُتبت في الأيام التي تلت الإحراق، ولأنها كانت مراسلات داخلية غير معدَّة للنشر، فنقلت المعلومات والآراء دونما حسابات إعلامية أو ديبلوماسية؛ كما أخذت العديد من التقارير والمراسلات قيمتها بسبب الخبرة الطويلة للبريطانيين في العالم الإسلامي كمستعمرين وكقوة استعمارية سابقة؛ ولكون البريطانيين قد حافظوا على علاقات قوية مع الدول الإسلامية ومنظومات الحكم فيها، مع إمكانات استخبارية عالية، مما مكنهم من الإبقاء على اطلاع قوي على الأوضاع الداخلية لتلك البلدان وعلى حساباتها السياسية. ومع ذلك، فيجب أن يؤخذ ما ورد في هذه الوثائق على أنه مصدر من مصادر المعلومات، إلى جانب مصادر أخرى أساسية، وسيتم تحليله ونقده وتقييمه كغيره من المصادر.
يركز هذا البحث على الآثار المباشرة للإحراق المتعمد للمسجد الأقصى، وعلى موقف الجماهير المسلمة وحكوماتها. وإلى جانب الوثائق
البريطانية هذه، يستفيد الكاتب أيضاً من الأدبيات الأخرى ذات الصلة بالموضوع، بما في ذلك “الكتاب السنوي للقضية الفلسطينية لعام 1969″، و”الوثائق الفلسطينية العربية لعام 1969” التي يمكن القول بأنهما أكثر المصادر العربية قيمة في مقارنة ومقابلة الوثائق البريطانية. كما سيتم الرجوع إلى الموقع الرسمي للأمم المتحدة فيما يتعلق بالقرارات والنقاشات ذات الصلة.
إحراق المسجد الأقصى
في 21/8/1969 صُدم العالم الإسلامي بأخبار حريق المسجد الأقصى، مما أشعل موجة من الغضب والاحتجاجات. ووُجّهت أصابع الاتهام للإسرائيليين بأنهم تعمدوا محاولة تدمير الأقصى تمهيداً لإنشاء الهيكل اليهودي الثالث. وقد تأججت مشاعر الغضب في ذلك الوقت، وتعالت دعوات الجهاد لتحرير الأقصى والقدس وفلسطين في كل مكان.
دَمَّر الحريق الجزء الجنوبي والجنوبي الشرقي من المسجد. وقد خلص فريق تقني عربي تمّ تشكيله لفحص المنطقة المتضررة في تقريره الأولي إلى وجود حريقين منفصلين؛ أحدهما في منطقة المحراب، والثاني في سقف الجزء الجنوبي الشرقي من المسجد. وقد أتى الحريق بشكل مأساوي على المنبر الذي يعد تحفة معمارية لا تقدر بثمن، والذي بناه نور الدين محمود في منتصف القرن الثاني عشر الميلادي استعداداً لتحرير القدس من الصليبيين، وقام صلاح الدين بتثبيته لاحقاً. كما ألحق الحريق دماراً كبيراً في 400م2 أخرى من السقف الجنوبي الشرقي، وتضررت قبة الأقصى بفسيفسائها وزخرفتها، هذا بالإضافة إلى تضرر عمودين من الرخام بين القبة والمحراب. وقد أكد التحقيق الشامل، الذي أجراه مهندسو الكهرباء، الذين كانوا يعملون جنباً إلى جنب مع شركة القدس للكهرباء أن الحريق لم يكن ناجماً عن عطل كهربائي.
وبناء على معلومات مقدمة من دائرة الأوقاف الإسلامية، اعتقلت الشرطة الإسرائيلية في 22/8/1969 دينيس مايكل روهانDenis Michael Rohan، مزارع يبلغ من العمر 28 عاماً من مدينة سيدني Sydney في أستراليا، واعترف المتهم بارتكابه جريمة الحرق العمد للمسجد الأقصى. كان روهان ينتمي إلى مجموعة مسيحية أصولية صغيرة ومغمورة تسمى “كنيسة الله”، لا ترتبط بأي كنيسة مسيحية معترف بها.
أبلغ المفوض السامي الأسترالي في لندن وزارة الخارجية أن روهان هرب من المنزل، عندما كان عمره 15 سنة، وأضاف أن روهان كان يُعالج في مستشفى للأمراض النفسية في أورانج Orange قبل عامين من الهجوم، وأصبح عند خروجه من المستشفى متشدداً دينياً؛ وأنه قد غادر أستراليا إلى إنجلترا بعد ذلك بعام. وأعلن والد روهان حينها إنه ليس لديه النية لاتخاذ أي إجراءات قانونية للدفاع عنه أو مساعدته بأي شكل من الأشكال “حيث إنه مُقاطَع من قبل أسرته”، لكن ذلك لم يمنع روهان من زيارتهم.
شددت الرواية الإسرائيلية عن إحراق الأقصى على أن روهان تصرف بمفرده، وكان هو الجاني الوحيد. وفي 31/8/1969 قدم المدعي العام الإسرائيلي الجنرال مائير شامجار Meir Shamgar ملفاً اتهامياً إلى المحكمة المحلية في القدس تضمن تقريراً مفصلاً عن محاولات روهان حرق المسجد الأقصى، وذكر أن روهان دخل “إسرائيل” كسائح في آذار/ مارس 1969، وأقام في القدس خلال الفترة 20/7-21/8/1969. وبحسب ما ورد في ملف القضية، فقد زار روهان منطقة قبة الصخرة والمسجد الأقصى عدة مرات، وتودد إلى المرشدين وحراس الوقف. وتضيف الرواية أنه بعد ظهر يوم 11/8/1969، دخل روهان مدينة القدس واختبأ عند شجرة بالقرب من المسجد الأقصى، وبقي هناك حتى الساعة الثامنة مساء؛ وبعد ذلك بدأ يتجول في المنطقة لاستكشاف ما إذا كانت خاضعة للحراسة أم لا. وفي حوالي الساعة 11:30 مساء، اقترب من البوابة الجنوبية الشرقية للمسجد. وحاول روهان حينها إشعال حريق في المسجد من خلال صبّ مادة الكيروسين عبر ثقب مفتاح البوابة؛ إذ إنه أدخل حبلاً مبللاً بمادة الكيروسين في ثقب المفتاح وأشعل طرفه. وبعد أن رأى النار قد شبت في الحبل، غادر منطقة القدس القديمة وعاد إلى فندق ريفولي Revoli حيث كان يقيم.
عندما اتضح لروهان أن محاولته لم تنجح، قرر إشعال النار في المسجد بطريقة أخرى. فبحسب ما ورد الملف نفسه، وصل المتهم في 21/8/1969، في حوالي الساعة 6 صباحاً، إلى باب الأسباط (باب الأسود) أو ما يعرف أيضاً بـباب سانت ستيفانSt. Stephan، وانتظر هناك فترة من الزمن، حيث دخل منه إلى بلدة القدس القديمة، وواصل طريقه إلى باب الغوانمة، واشترى هناك تذكرة من الحارس التابع للأوقاف الإسلامية، ودخل منطقة الأقصى يحمل معه حقيبة ظهر تحتوي على وعاءَين وقارورة ماء مليئة بمادتي البنزين والكيروسين. ثم دخل المتهم إلى المسجد الأقصى عبر المدخل الرئيسي حوالي الساعة السابعة صباحاً، بعد الحصول على إذن من الحارس. داخل المسجد، قام بوضع الحقيبة ومحتوياتها أسفل درجات المنبر، وقام ببلّ وشاح صوفي بمادة الكيروسين، وفرش أحد طرفيه على درجات المنبر والطرف الآخر في الوعاء الذي ملأه بالمواد الحارقة، ثم قام بإشعال الوشاح. بعد ذلك، ترك المتهم المدخل الرئيسي للمسجد راكضاً عبر باب حطة وغادر البلدة القديمة من باب الأسباط (بوابة الأسود).
ويُظهر فحص الملف الجنائي الذي أعده المدعي العام الإسرائيلي أن روهان كان رجلاً ذكياً وماهراً ومنظماً، مما دفع العديد من المسلمين إلى التشكيك بمزاعم اختلاله العقلي التي أطلق سراحه على أساسها من قبل السلطات الإسرائيلية، حيث يرى العديد من المسلمين في إطلاق سراحه دليلاً ضمنياً على التعاطف الإسرائيلي معه والرضا عن تصرفه.
لم تقنع التقارير الإسرائيلية جماهير العالم الإسلامي المتشككة بها، حيث كان هؤلاء على قناعة بأن جريمة بهذا المستوى لا يمكن أن تتم دون ضلوع “آخرين” في توجيه روهان وإلهامه. تجنب المدعي العام الإسرائيلي الكشف عن مكان وجود روهان بين شهري آذار/ مارس وتموز/ يوليو 1969، وتجنب التطرق إلى العلاقات التي طورها في تلك الفترة الزمنية. كما ألقى الوضع المالي لهذا الشاب السائح المزيد من الشكوك حول قضيته، فكيف أمكنه أن يعيل نفسه ويغطي نفقات إقامته في فندق ريفولي في شرق القدس شهر تقريبا؟ ومما يثير الشكوك حول هذا الموضوع ما ورد في التقرير المذكور من أن الشاب مُقاطعٌ من قبل عائلته، وأنه كان يعاني من مشاكل نفسية. وفي الواقع، لا يوجد دليل على أن روهان كان لديه وظيفة منتظمة أو يتقاضى راتباً من أي نوع.
وفي 28 آب/أغسطس قال محمد الفرا سفير الأردن لدى الأمم المتحدة في بيان له في مجلس الأمن أن الأسترالي المشتبه به، بحسب مصادر إسرائيلية، “صديق لإسرائيل” وقد تم إحضاره للعمل لصالحها عبر وكالة يهودية، حيث رتّبت هذه الوكالة له العمل في أحد المستوطنات(كيبوتس) لعدة أشهر، حتى يتمكن من تعلم اللغة العبرية واكتساب المزيد من المعلومات حول الصهيونية. ووفقاً لمقال نشر في مجلة التايمز The Times في لندن في 12/9/1969، فقد عرض روهان في طريقه إلى المسجد على كل حارس من حراس المسجد الأقصى مبلغ 110 جنيهات أسترلينية لكنهم رفضوا. وقد شك أحدهم بوجود أمر مريب ثم دخل إلى المسجد، وشرع في البكاء عندما اكتشف الحريق. وقد نقلت صحيفة جيروزاليم بوست Jerysalem Post في 25/8/1969 عن والدي روهان بالتبني في المستعمرة قولهما: “لم يبد لنا أنه كان يفتقر إلى المال”.