لكن عليك خشينا وقفة الخجل
الشيخ كمال خطيب
يحكى أن رجلا كان ذا ثراء عظيم وكانت تجارته بالجواهر والياقوت والمرجان والأحجار الكريمة، وكان له ولد وحيد وكان هذا الابن يكرم أصدقاءه أيّما إكرام، وهم يحبونه ويترددون عليه كثيرا وأبوه يشجعه على إكرام أصدقائه.
توفي الأب وتغير حال أسرته تغييرا جذريا، فافتقروا بعد غنى، وذلوا بعد عز، وانقلب حال الرخاء إلى شدة، راح الابن يقلب صفحات صداقاته القديمه عله يجد من بين أصدقائه الماضين من يقيل عثرتها فسمع أن أحدهم وكان الاقرب إليه قد أصبح ثريا وموسرا بل إنه أصبح من التجار الكبار.
توجه إليه وهو على أمل أنه سيجد عنده مبتغاه، إما فرصة عمل أو قرض يخرجه من ضائقته أو عطية يعطيه إياها، لكنه فوجئ بعد إذ وقف على الباب وشرح لحارس الباب من يكون وما هي صلته بصاحب البيت. صعد الحارس ليخبر صاحب البيت الذي وقف من خلف ستائر الواجهة الزجاجية ليري ذاك الشاب المهموم الرث الثياب، وكانت المفاجأة أن أمرهم بأن يعتذروا له وأن صاحب البيت لا يستطيع مقابلته.
وبينما الرجل يرجع الى قريته مهموما ثقيل الخطأ يأسف على الزمان الغدار وعلى قلة الوفاء وعلى المعروف الذي صنعه مع أصدقائه، ولكنهم كانوا من غير أهله. وهو كذلك إذ بثلاثة رجال في الطريق وقفوا يسألونه، هل تعرف فلان ابن فلان؟ وذكروا اسمه واسم والده، فقال إنه أبي وإنه مات منذ زمن. ذكر الرجال الوالد بخير وقالوا: إن أباك كان يتاجر بالجواهر والأحجار الكريمة، وإنه يوما قد وضع عند والدنا أمانة من نفائس المرجان والحجارة الكريمة وإن والدنا قد أوصانا عند موته بالأمانة وأن نردها إلى صاحبها، وأخرجوا علبة فيها من نفائس الحجارة الكريمة والمرجان واللؤلؤ.
ليس أن الرجل قد صعق وراح يترحم على والده بل وعاد يذكر أنه ما زال في الدنيا خير وخيّرون يؤدون الامانات الى اهلها، ولكنه ولما رجع الي بيته راح يفكر كيف سيبيعها ويحولها الى مال ينتفع به. لم يكن الرجل يخرج من صدمته وذهوله الا وامرأة كبيرة في السن تظهر عليها آثار النعمة ومعها من يخدمها، واذا بها تطرق عليه بابه تساله إن كان يعرف بيت فلان تاجر المجوهرات واللآلئ لأنها تريد أن تشتري منه، وسمّت له اسم والده. صعق الشاب من جديد وقال أن أباه قد مات منذ زمن، تظاهرت المرأة بالحزن على الميت لكن الشاب وجدها ضالته وفرصته، فعرض عليها ما عنده من نفائس المرجان والحجارة، اشترت منها المرأة حاجتها ووعدته بأن ترجع لشراء غيرها، وعادت حياة الشاب لتتحول من العسر إلى اليسر، ومن الشدة إلى الرخاء، ومن الفقر إلى الغنى.
وبعد حين تذكر الأيام الخوالي وتذكر ذاك الصديق الذي ما أدى حق الصداقة، ولم يراعِ ودّ سنين، فكتب له بيتين من الشعر على بطاقة أرسلها مع صديق آخر لهما يقول فيهما :
صحبت قوما لئاما لا وفاء لهم يدعون بين الورى بالمكر والحيل
كانوا يجلّوني مذ كنت ربّ غنى وحين أفلست عدوني من الجهل
فلما قرأ الصديق أبيات الشعر على البطاقة تأثر وحزن، ولكنه قلب البطاقة و كتب على ظهرها :
أما الثلاثة قد وافوك من قِبلي ولم تكن سببا الا من الحيل
إن التي ابتاعت المرجان والدتي وأنت أنت أخي بل منتهى أملي
وما طردناك من بخل ومن قَلَل لكن عليك خشينا وقفة الخجل
إنه فعل كل هذا لأنه ما أراد ولم يطق أن يرى صديقه وصاحب الفضل واليد البيضاء عليه وهو يقف موقفا محرجا مخجلا يطلب صدقة وإحسانا، وهو الذي كان صاحب العطايا ومعطي الصدقات. فهكذا يكون الوفاء وهكذا تكون الصداقات، وهكذا تكون الرجولة.
الحكيم والقط
يحكى أن حكيما عجوزا خرج يتنزه على شاطئ نهر، وبينما هو كذلك وهو جالس يتأمل إذ رأى قطا هاربا من كلب يلاحقه. ألقى القط بنفسه في ماء النهر، أما الكلب فقد توقف عند حافة النهر. نظر الحكيم إلى القط وهو يتخبط في الماء يحاول أن ينجو بنفسه من الغرق ولكن دون جدوى.
قام الحكيم العجوز وتقدم إلى حيث القط يحاول أن ينقذه فمدّ له يده وإذا بالقط يخمشه بمخالبه، فسحب الحكيم يده من شدة الألم.
لم تمض إلا برهة قصيرة والحكيم ما يزال يتألم بينما القط يكاد يغرق فمدّ إليه الحكيم يده ثانية يريد أن ينقذه فخمشه القط ثانية بمخالبه ليعود الحكيم لسحب يده من الماء ثانية وهو يتلوى من الألم. وما لبث الحكيم أن أعاد المحاولة للمرة الثالثة ومثل سابقتها فعل القط بأن خمش ” خرمش” يد الحكيم التي امتدت لمساعدته وإنقاذه.
إلى جانبه وقريبا من مكان جلوس الحكيم كان يجلس رجل آخر يراقب المشهد بكل تفاصيله، وفجأة وإذا به يصرخ غاضبا موجها كلامه للعجوز الحكيم ” ألم تتعظ أيها الحكيم من المرة الأولى ولا الثانية، وها أنت تحاول للمرة الثالثة. أنت تريد إنقاذه وهو يعض يديك ويخرمشك؟”.
لم يأبه الحكيم لتوبيخ الرجل، وظل يحاول حتى استطاع إنقاذ القط وأخرجه من الماء وأطلقه بينما هو يبتسم، ثم تقدم باتجاه الرجل الغاضب وربت على كتفه قائلا له :يا بني، من طبع القط أن يخمش ومن طبعي أن أحب وأعطف، فلماذا تريدني أن أسمح لطبعه أن يتغلب على طبعي؟ يا بني عامل الناس بطبعك وأخلاقك، لا بطبعهم وأخلاقهم.
لا تقطع أذنك
يحكى أن أحد الملوك قد تأخرت زوجته في إنجاب ولد ليكون وليا للعهد من بعد أبيه. أرسل الملك في إثر الأطباء من أرجاء المملكة وكتب الله أن يجري شفاء الملكة على أيديهم، فحملت بإذن الله بولي العهد.
طار الملك من الفرح وأخذ يعدّ الأيام ليوم ميلاد الأمير القادم، يعد لذلك الأفراح والليالي الملاح، ولكن دهشة الملك كانت عظيمة وصدمته كانت فوق الاحتمال وهو يرى طفله وولي عهده بأذن واحدة.
انزعج الملك وخشي أن يصاب الأمير الصغير بعقدة نفسية تحول بينه وبين أن يصلح للحكم، فجمع وزراءه ومستشاريه وعرض الأمر عليهم، فقام احد المستشارين وقال له: (الامر سهل وبسيط يا جلاله الملك فاذا ولد مولود ذكر لابناء الشعب فاقطع له إحدى أذنيه وبذلك يتشابه المواليد الجدد مع سمو الأمير، فلا يصاب بما تكرهه). أعجب الملك بالفكرة وصارت عادة أهل تلك المملكة أنه كلما ولد لهم مولود قطعوا أذنه.
مضت عشرات السنين وإذا بأفراد ذلك المجتمع كلهم، الرجال خاصة بأذن واحدة، وحدث مرة أن شابا من بلدة بعيدة جاء إلى تلك المملكة وكان له أذنان مثل كل الناس، فاستغرب سكان المملكة واستهجنوا أن يروا رجلا بأذنين اثنتين حتى بدا لهم أنه هو الشاذ بينهم، لا بل أنه أصبح محل سخرية وهم ينادونه يا ذا الأذنين..!
ضاق الشاب ذرعا باستهزائهم منه وأراد أن يتخلص من بذاءة ألسنتهم فقرر أن يقطع إحدى أذنيه ليصير مثلهم وواحدا منهم. وهكذا وتحت ضغط الواقع وتأثير الرأي العام أصبح مقطوعو الأذنين هم الحالة الطبيعية وغيرهم هم الشواذ وغير الطبيعيين.
لقد حدث في التاريخ أن مجتمعات كثيرة أصيبت بإعاقات فكرية وأخلاقية وعقائدية، ولأجل ذلك كان الله جل جلاله يرسل الرسل لإصلاح وعلاج هذه الإعاقات.
فمجتمع وقوم إبراهيم عليه السلام كان معاقا بالشرك، وكان إبراهيم بينهم غريبا لأنه رفض أن يمارس إعاقتهم { قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءاء منكم ومما تعبدون من دون الله } آية 4 سورة الممتحنة.
ومجتمع قوم لوط عليه السلام كان معاقا بالشذوذ الجنسي، وكان لوط بينهم غريب لأنه رفض أن يمارس إعاقتهم { وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون } آية 82 سورة الأعراف.
وهكذا كانت الشعوب لما تصاب بإعاقة فكان الله تعالى يرسل رسولا صحيحا سليما معافى لينقذ قومه، ولم يكن المطلوب منه أن يصبح مثلهم وإنما يصبر على أذاهم ويعمل لعلاجهم حتى وإن كانوا هم الأكثرية بينما هو وحيدا. فالخطأ يبقى خطأ ولو فعله كل الناس، والصواب يبقى صوابا ولو لم يفعله أحد. وإذا كنت على يقين أنك على صواب وعلى الحق فلا تتنازل عنه لإرضاء الآخرين، وإذا كانوا هم لا يخجلون من باطلهم ومن خطئهم ويتمسكون به، فلماذا تخجل انت من صوابك ومن الحق المبين الذي أنت عليه فتتنازل عنه. وتذكروا دائما أنه في أغلب الآيات التي ورد فيها قول الله سبحانه { أكثر الناس } إلا وتبعها { لا يعلمون } الأعراف، يوسف، النمل، الروم { لا يعقلون } المائدة، العنكبوت. { لا يؤمنون } هود، الرعد، غافر.
فالثبات الثبات أمام إعاقة الدنيا كلها هذه الأيام وهي تعلن الحرب على المشروع الإسلامي، واصبر وإياك إياك أن تقطع أذنك!!
ترك المسجد وأصبح زبونا في المقهى
يقول العلماء أن كلمة ” وليتلطف” التي وردت في الآية 19 من سورة الكهف هي الكلمة التي تتوسط القرآن الكريم تماما، فالكلمات التي قبلها هي بعدد الكلمات التي بعدها { فابعثوا أحدكم بورقكم هذه الى المدينه فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه وليتلطف ولا يشعرن بكم أحدا} آية 19 سورة الكهف. والتلطف هو نوع من التوسط والوسطية دون إفراط ولا تفريط، وجاءت كلمة وليتلطف في وسط القرآن لتدلل على أهمية الوسطية الحقه والتي هي منهج رباني، بل هي من صفات أمتنا أمة الخير. { وكذلك جعلناكم امه وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا} آية 143 سورة البقرة. وإذا كان التلطف مع الأعداء في قصة أصحاب الكهف من فتية الإيمان مطلوبا لتحصيل منفعة دينية، فهو مع المؤمنين أولى لأن عكس التلطف هو القسوة والفظاظة التي نهينا عنها. { ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك } آية 159 سورة آل عمران.
الغريب واللافت أن من بيننا من هم على العكس تماما، فيحكى في قصة حقيقية أن شابا بدأ بالصلاة وراح يتردد على المسجد، وذات مرة ومن غير انتباه فقد رنّ هاتفه النقال خطأ. لم يكف الشاب حرجه بل زاد عليه بعض المصلين الذين راحوا يكيلون له التهم والألفاظ القاسية حتى قال متنطع منهم ” أتعصي الله في بيته؟ ألا تخاف أن يخسف الله بك؟”. ارتبك الشباب ولم يدر ماذا يقول وتمنى أن لو انشقت الأرض وابتلعته، وظن نفسه فعلا أنه ارتكب كبيرة من الكبائر، وأن غضب الله قد نزل عليه، وكان أسهل شيء أن يفعله أنه أقسم ألّا يعود للمسجد أبدا وخرج ولم يعد.
بالمقابل ذهب الشاب وأصبح يتردد على أحد المقاهي وهو مهموم مغموم، وبينما هو جالس يدخن النرجيلة وقع رأس الشيشة وصحن الفحم على الأرض، وراح الحاضرون من جلساء المقهى ينظرون إليه دون أن ينبس أحدهم ببنت شفه، وما هي إلا لحظات إلا وصاحب المقهى يقترب منه ومعه أحد عمال النظافة ليقول له :” ولا يهمك حبيبنا، ألف راس فداك” وابتسم في وجهه. ومن يومها أصبح الشاب زبونا دائما في المقهى يتردد عليه، وما عاد، من رواد المسجد فلم يعد يتردد عليه ولم يرجع إليه.
فتلطفوا وكونوا كما قال الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى: المؤمن يستر وينصح والفاجر يهتك ويعيّر.
ملاحظة : ما ورد في هذه المقالة مقتبسة وبتصرف من الكتاب الرائع ” قمم تهوى النجاح” للدكتور حسان شمسي باشا والذي أنصح بقراءته واقتنائه مع باقي كتب المؤلف.
رحم الله قارئا دعا لنفسه ولي ولوالدي بالمغفرة
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون