لاجئ من يافا وقصة انقلاب غير عسكري في قطاع غزة عام 1958
عبد القادر ياسين
يروي الكاتب واللاجئ الفلسطيني عبد القادر ياسين، قصة انقلاب غير عسكري في قطاع غزة، قال بأنه حدث في ربيع عام 1958، حين كان القطاع تحت الإدارة المصرية.. في ظل صراع الناصريين مع البعثيين والشيوعيين والإخوان.. وهي شهادة تنشرها “عربي21″، في سياق تقليب التاريخ الفلسطيني، وغدارة حوار بين النخب الفلسطينية لترسيخ ثوابت الهوية والتراث الفلسطيني.
من محقق إلى متهم
كنت أغط في نوم عميق، مساء أحد الأيام الأخيرة من شهر آذار/ مارس 1958، وإذا بوالدي يهزني، بهدف إيقاظي، وليخبرني بأن ثمة من ينادي عليَّ في خارج المنزل. ارتديت ملابسي، على عجل، وخرجت لأجد الأستاذ ماجد المزيني، وكيل النيابة العامة، في انتظاري. قال لي: “البس هدومك، ويلا، علينا التحقيق في محاولة انقلاب في القطاع”. عدت إلى منزلي، وتهيأت للمهمة، باعتباري سكرتير تحقيق. وما هي إلا دقائق، حتى كنت ووكيل النيابة في مقر المخابرات الحربية، داخل سرايا غزة.
هناك علمنا بأن المتهم الأول في تدبير الانقلاب هو سعدي سعيد الشوا، وبدأنا نلملم ما تجمَّع من أوراق، وبيِّنات، وقرائن، بين أيدينا.
فجأة رن جرس الهاتف، من قِبل الأستاذ أحمد فؤاد جنينة، النائب العام في قطاع غزة، وطلب إلى كلينا مغادرة مقر المخابرات الحربية، فورًا، والالتقاء به، في مقر النيابة العامة، صباح اليوم التالي. وقد كان.
حين توجهنا إلى مقر النيابة العامة، اكتشفنا بأن كلينا ـ أنا وماجد ـ له علاقة بالانقلاب! إذ كان كامل الشريف، القطب الإخواني المصري المعروف، والمقيم في العاصمة الأردنية، عمَّان، منذ الضربة الأمنية التي وُجهت للإخوان في مصر، خريف 1954، نصح الشوا بالاتصال بالحاج صادق المزيني، مسؤول الإخوان في القطاع، ليمده بأعضاء من الإخوان، يساعدون الشوا في انقلابه المنتظر، والذي تبدأ أولى خطواته بتوزيع منشور، يحمل توقيع “الحزب الشيوعي الفلسطيني بقطاع غزة”، ويغص بالهجوم على نظام عبد الناصر، بمفردات ماركسية ـ لينينية، ولأن أجهزة الأمن تعمل بالأحوط؛ لذا ستسارع إلى اعتقال الشيوعيين، وترحيلهم من القطاع إلى السجون المصرية؛ ما يُخلي القطاع من مؤيدي نظام عبد الناصر، فيمر الانقلاب بالقطاع مرور السكين في الزبدة. ومن هنا، جاءت علاقتنا المتعارضة ـ أنا والأستاذ ماجد ـ بهذا الانقلاب، أنا كشيوعي، وهو كإخواني، ونجل المسؤول الأول عن “الإخوان” في القطاع، آنذاك.
اقتحمت قوات الأمن منزل سعدي الشوا، ومعمل الثلج الذي يمتلكه فعثرت في الأخير على بندقية صيد، وبعض المنشورات، التي كانت سلطات الاحتلال الإسرائيلي للقطاع (خريف 1956 ـ ربيع 1957) تُلصقها على الجدران أو تنثرها في الشوارع، ليتلقفها الأهالي.
اعتبرت مرافعة النائب العام بندقية الصيد، “الأسلحة التي كانت تُستخدم في تنفيذ الانقلاب”! أما المنشورات الإسرائيلية المعدودة، فكانت ـ برأي جنينة ـ معدة لتوزيعها على جماهير القطاع!
انعقدت المحاكمة في مسرح مدرسة فلسطين الثانوية، في حيّ الرمال، بمدينة غزة. وكان سعدي الشوا قد استعان بمصطفى أبو مدين، الذي رافقه إلى الأردن، لاستكمال تفاصيل الانقلاب، وقد أدلى الأخير بشهادته أمام المحكمة العسكرية الخاصة، مؤكدًا بأنه من أبلغ عن الانقلاب الموعود. وإن كان مدير المخابرات الحربية قد أكد ـ في شهادته أمام المحكمة نفسها ـ بأن خبر الإعداد للانقلاب قد وصلهم، قبل أن يبلغهم به أبو مدين.
كان الأخير، آنذاك يحتل موقع الرجل الثاني في شعبة “البعث” بالقطاع، متوليًا مسؤولية الشعبة من جنوب مدينة غزة إلى بلدة رفح. وبعد اندلاع الخلاف بين “البعث” وعبد الناصر، أواخر العام 1959، أقدمت شعبة القطاع على فصل ثمانية من إثني عشر هم كل أعضاء قيادة الشعبة. وبعد انتهاء المحاكمة مُنح أبو مدين لقب “المواطن العربي الأول”.
ترأس المحكمة العسكرية العقيد كمال المهدي حميدة، الذي اُنتدب من مصر، لهذا الغرض. ووقف سعدي الشوا، مؤكدا بأن ما دفعه إلى الاتصال بالسلطات الأردنية بهدف تدبير انقلاب ضد الإدارة المصرية، هو ما تعرَّضت له عائلته من ظلم، على يدي الإدارة المصرية في القطاع، وأجهزتها الأمنية، حيث اعتُقل شقيقه رشدي، لمجرد قبوله تولي موقع رئيس بلدية غزة، تحت الاحتلال الإسرائيلي، وقد برَر سعدي قبول شقيقه بهذا الموقع، حتى لا يشغله إسرائيلي.
أردف سعدي بأنه، بعد التحضيرات الأولية، سلَّم رصنه إلى مصطفى أبو مدين.
شأن كل المحاكم العسكرية، كان الحكم قد تم تجهيزه، قبل المداولة. وصدر الحكم، بعد محاكمة سريعة، بالمؤبد على سعدي، بينما اعتُقل الحاج صادق المزيني، في السجن الحربي، بالقاهرة، لنحو عام ونصف العام، وإن لم يكمل الأول مدة حكمه؛ إذ سرعان ما دخل عبد الناصر في عداء غير مُبرَّر مع الشيوعيين، “اضطر” معه إلى مهادنة المحافظين، العرب وغير العرب!
حملة ضد الشيوعيين
انتقل حميدة، بعد أن ترقى إلى رتبة عميد، ليحتل موقع مدير الشؤون الداخلية والأمن العام في قطاع غزة، نائبًا للحاكم العام للقطاع، ونقل الأول استبداده إلى موقعه الجديد. ولما تم افتعال الحملة إياها ضد الشيوعيين في الوطن العربي، اقترح حميدة اعتقال النشطاء الشيوعيين في القطاع، وإن اعترض اللواء أحمد سالم، الحاكم العام، فما كان من حميدة إلا أن انتهز فرصة سفر سالم إلى مصر، فأقدم حميدة على استئذان قيادة القوات الدولية في القطاع، لشن حملة الاعتقالات إياها، فأذنت له تلك القيادة، وشن حملته الأولى، فجر يوم 23 نيسان/ أبريل 1959، وحملته الثانية، فجر آب/ أغسطس من السنة نفسها.
وطالت الحملة الأولى ثمانية عشر شخصًا، نحو ثلثهم لا علاقة عضوية لهم بالحزب الشيوعي! بل إن أحدهم وهو مدرس ثانوي، ويعمل في مدرسة خان يونس الثانوية، ويُدعى عوض حجازي، لم تكن تربطه بالسياسة أي رابطة! وكل ما في الأمر، أن مختار قريته، عبسان، وهو من آل القرا، نشب بينهما خلاف شخصي، فما كان من المختار إلا أن وشى بحجازي، زاعمًا ـ كذبًا وافتراءً ـ بأنه شيوعي خطر! وأجهزة الأمن هنا لا تُكذب خبرًا، فأودعت حجازي المعتقل، لنحو سنتين كاملتين.
حين خرجت النسبة الأكبر من المعتقلين، شربت جدتي لأبي حليب السباع، وذهبت إلى مكتب حميدة، متوهمة بأنها حين تُفهمه بأنها مصرية الأصل، من المطرية، محافظة الدقهلية، سيصبح لها دالة على السيد مدير الداخلية، لكن فألها خاب؛ حين سمعته يقول لها: “دا عبد القادر الحسيني، وليس عبد القادر ياسين! دا كان عايز يغتالني!”.
حين خرجتُ من المعتقل، بعد بضعة أشهر، سألتني جدتي عن تفاصيل محاولة الاغتيال المزعومة، فأبلغتها بأن محمود صالحة تأخر اعتقاله، ليومين بعدها، وحين اعتقلوه واجهه حميدة: “أنت عايز تغتالني أنت وعبد القادر ياسين، وديب الهربيطي؟!” ولم يكن لهذا كله نصيب من الصحة.
مرت الأيام، وغدا حميدة محافظًا لأسيوط (1970 ـ 1971)، وقد فوجئت بأن السادات اعتقله ضمن من عُرفوا باسم “مراكز القوة”، في 13 أيار/ مايو 1971. ولهذا قصة تُروى.