72 عاما على احتلال حيفا… عندما سقطت عروس البحر ولؤلؤة بلاد الشام
ساهر غزاوي
عندما زارت غولدا مئير، وهي واحدة من الزعماء الصهيونيين الكبار، حيفا بعد أيام قليلة، وجدت من الصعب عليها في البداية أن تكبت إحساساً بالرعب عندما دخلت البيوت حيث كان الطعام المطبوخ ما زال على الطاولات، والألعاب والكتب التي تركها الأطفال على الأرض، وحيث بدا الامر كأن الحياة تجمدت في لحظة واحدة. وكانت مئير جاءت فلسطين من الولايات المتحدة، التي هربت عائلتها إليها في إثر المذابح المنظمة في روسيا، وذكّرتها المناظر التي شاهداتها ذلك اليوم بأسوأ القصص التي سمعتها من عائلها الوحشية الروسية ضد اليهود قبل عقود. لكن ذلك لم يؤثر، كما يبدو، في عزمها أو عزم زملائها على المضي قدماً في التطهير العرقي لفلسطين.
هذه إحدى المشاهد التي تلخص حجم الكارثة والويلات والمآسي التي تعرضت له مدينة حيفا كغيرها من المدن والقرى الفِلَسطينيّة، إلى نكبة وتطهير عرقيّ، حيث عاش سكّان حيفا العرب الأصلانيّين النّكبة كما عاشوا التّهجير بأنفسهم. فبعد أن أتمّت “الهاغاناة” احتلال حيفا، وتنفيذ أوامر بن غوريون بتشريد سكّانها العرب، الّذين لم يبقَ منهم سوى نحو ثلاثة آلاف إنسان.
بما أن حيفا كانت ميناء فلسطين الرئيسي، فإنها كانت المحطة الأخيرة في مسار الانسحاب البريطاني. وكان من المتوقع أن يبقى البريطانيون حتى آب/أغسطس، لكنهم قرروا في شباط/فبراير 1948 تقدم موعد الانسحاب إلى أيار/مايو. وبالتالي، فإن أعداداً من الجنود البريطانيين كانت موجودة في المدينة، وكان لا يزال لديها السلطة القانونية، لفرض القانون والنظام فيها. لكن سلوك هؤلاء الجنود كما اعترف بذلك كثير من الساسة البريطانيين في وقت لاحق، (كما يقول المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه) شكل واحدا من أكثر الفصول مدعاة إلى العار في تاريخ الإمبراطورية البريطانية في الشرق الأوسط. وقد بدأت الحملة اليهودية لبث الذعر في القلوب في كانون الأول/ديسمبر، واشتملت على قصف عنيف، ونيران قنص، وأنهار من النفط الوقود المشتعل المتدفقة من أعالي جبل الكرمل إلى الأسفل، وبراميل مملوءة بالمتفجرات، وتواصلت طوال الأشهر الأولى من سنة 1948، لكنها اشتدت في أوائل نيسان/أبريل. في اليوم نفسه الذي أرغم فيه الفلسطينيون في طبرية على الهروب، استعدى الميجر جنرال هيو ستويكل، قائد القطاع الشمالي البريطاني، الذي كان مقره في حيفا، ممثلي السلطات اليهودية في المدينة وأخبرهم أن القوات البريطانية ستنسحب خلال يومين من مواقعها التي كانت تشكل منطقة عازلة بين المجتمعين. وكانت هذه المنطقة “العازلة” هي العقبة الوحيدة التي منعت القوات اليهودية من شن هجوم مباشر واحتلال المناطق الفلسطينية التي كان أكثر من 50.000 نسمة ما زالوا يعيشون فيها. وهكذا أصبح الطريق مفتوحا أما تطهير حيفا من العرب.
شرعت قوات من المنظمات العسكرية اليهودية بقصف متواصل لأحياء حيفا العربية مستخدمة أنواعا كثيرة من الأسلحة، بما فيها أسلحة كيماوية وقنابل ضخمة. ودب الرعب والخوف في قلوب مئات من العائلات العربية مما حدا بها إلى النزوح عن حيفا ريثما تهدا الحال. وسعت قيادات حيفا إلى تشكيل قيادة ميدانية تنظم عملية الدفاع عن المدينة، ولكن لم تتوفر لها الأموال ولا السلاح، وكان عدد المقاومين والمناضلين قليلا مقارنة مع اليهود. وحاولت القيادة العربية الحيفاوية الحصول على السلاح من سوريا ولبنان، إلا أن كمينا يهوديا نصب في طريق القافلة المحملة بالسلاح عند قريات موتسكين ففجر قائدها حمد الحنيطي نفسه ورفاقه كي لا تقع بيد اليهود. ولما بلغت اخبار التفجير مسامع الأهالي هرع كثيرون غلى الميناء وإلى الجهات الشرقية طلبا للحماية.
وجرى تنسيق دقيق بين قائد الشمال البريطاني الجنرال ستوكويل وقيادات الهاغاناه لتسليم المواقع الحساسة التي كانت تحت إمرته إلى قيادة الهاغاناه، استنادًا إلى قرار حكومة لندن بإنهاء الانتداب البريطاني وتحويل القضية الفلسطينية إلى أروقة الأمم المتحدة. وهكذا أهدى الانجليز إلى المنظمات العسكرية اليهودية مجانا أهم المواقع في حيفا. ثم اخلى الانجليز قواعدهم ومعسكراتهم في حيفا، والتي استولى عليها اليهود للحال.
ووضعت قيادة الهاغاناه خطة دقيقة محكمة للسيطرة على المدينة أطلقوا عليها اسم “مسبرايم”(المقص)، ومضمونها: انقضاض فرق من الهاغاناه من منطقة الهادار باتجاه حي وادي النسناس والبلد التحتا بعد تصفية مقر المقاومين في قصر آل الخورين وفرقة تتجه نحو بيت النجادة في حي الحليصا.
في الساعات الأولى من فجر يوم 22 نيسان/أبريل، بدأ الناس يتدفقون إلى الميناء. وبما أن الشوارع في ذلك الجزء من المدينة كانت شديدة الازدحام بالناس الساعين للنجاة، فإن القيادة العربية التي نصبت نفسها قيادة حاولت أن تدخل شيئاً من النظام إلى الفوضى العارمة. وكان في الإمكان سماع مكبرات الصوت تحث الناس على التجمع في السوق القديمة المجاورة للميناء، والبحث عن مكان آمن هناك إلى أن يصبح في الإمكان ترتيب إجلاء منظم عن طريق عن طريق البحر. (اليهود احتلوا شارع ستانتون وهم على الطريق)، كانت مكبرات الصوت تدوي.
ويروي كتاب لواء كرملي عن الحرب ما قام به خلال الحرب، لا ينم عن أي وخز للضمير فيما يتعلق بما جرى بعد ذلك. ضباط اللواء، اللذين كانوا يعرفون أن الناس نُصحوا بالتجمع بالقرب من بوابة الميناء، أمروا جنودهم بنصب مدافع هاون من عيار 3 إنشات على منحدرات الجبل المطلة على السوق القديمة والميناء-حيث يقوم مستشفى روتشيلد اليوم-ويقصف الناس المحتشدين في الأسفل. وكان الهدف التأكد من أن الناس لن يترددوا، وضمان الهروب في اتجاه واحد فقط. وما إن تجمع الفلسطينيون في السوق حتى أصبحوا هدفاً سهلاً للرماة اليهود.
كانت سوق حيف تبعد أقل من مئة متر عما كان وقتها بوابة الميناء. وعندما بدا القصف كانت الوجهة الطبيعة للفلسطينيين الذين أصابهم الذعر. وأزاح الحشد حراس البوابة من الشرطة جانباً واندفع داخل الميناء. وسارع عشرات إلى القوارب التي كانت راسية هناك وصعدوا إليها وبدأوا الرحيل عن المدينة. ومن الذكريات المروعة لبعض الناجين، والتي نشرت مؤخراً نستطيع أن نعرف ما حدث بعد ذلك وهذه واحدة منها: “داس الرجال أصدقاءهم وداست النساء أطفالهن. وسرعان ما امتلأت القوارب في الميناء بحمولتها البشرية. وكان الازدحام فيها مخفيا. وانقلب كثير منها وغرق ركابها جميعاً”.