قراءة علمية في موقف السنة والشيعة من الديمقراطية
الكتاب: الديمقراطية في الإسلام السني والإسلام الشيعي
المؤلف: الطاهر أمين
الناشر: دار ورقة للنشر تونس ـ 2016
يعمل الإسلام السياسي على جعل خطابه قادرا على مواجهة رهانات الحكم وتطلعات الفكر اليوم ولكن أكثر من حاجز يجعل هذه المهمة عسيرة. فكيف السبيل إلى التوفيق بين القول بحاكمية الله والاستناد إلى آيات مثل “أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقومٍ يوقنون” أو “وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله” أو “وإن أطعتموهم إنكم لمشركون” من جهة وتنبي الديمقراطية بما هي سلطة الشعب، سواء تعلق الأمر بنموذجها الأول الذي ظهر عند الإغريق قبل الميلاد أو بما تفرّع عنها من التصورات مثل الديمقراطية الشعبية أو الليبرالية أو الاجتماعية أو المباشرة والتي تفصل أساسا بين الدين والدولة من جهة ثانية؟
وليس الإسلام السياسي الذي “يتبنى” مقولة الديمقراطية واحدا. فهل الطرح السني للديمقراطية والطرح الشيعي لها واحد وقد تناءت المرجعيات بينهما واختلفت التصورات؟ تلك هي الأسئلة الجوهرية التي يدور عليها مؤلف الطاهر أمين: “الديمقراطية في الإسلام السني والإسلام الشيعي”.
بين يدي الكتاب
لا ينخرط الكتاب ضمن محاولات التقريب بين المذهب السني والمذهب الشيعي شأن كتاب “السنة والشيعة: وحدة الدين، خلاف السياسة والتاريخ” لأحمد الكاتب مثلا، ولا يُدرج ضمن الآراء التي تعارض ذلك شأن كتاب “مسألة التقريب بين أهل السنة والشيعة” لناصر القفاري أيضا. فليست هذه الغايات من اهتمام الباحث ولا من غاياته. فهو يعمل، فيما يعلن على الأقل، على رصد الظاهرة بطريقة علمية محايدة، معتمدا الاستقراء منهجا. وهذا طبيعي فــ “الكتاب لا يستهدف إصدار أي حكم ديني، فمنطقه يظل ثابتا: محاولة فهم المسألة الديمقراطية كما يطرحها الإسلام السني والشيعي خارج الجدل اللاتاريخي العقيم والصراع على التاريخ الذي لا يزال يقرأ داخل لعبة تبادل الاتهامات”.
ورد الكتاب في 190 صفحة من القطع المتوسط. فاشتمل على مقدمة وقسمين كبيرين يتفرعان بدورهما إلى جملة من الفصول. وعنون القسم الأول بـ”الديمقراطية في الإسلام السني” ووسم الثاني بـ”الديمقراطية في الإسلام الشيعي”. ولم يضبط له خاتمة. ولا نظن المؤلف يغفل عن وظيفتها المنهجية. ولكن في الخاتمة تظهر وجهة النظر الشخصية بشكل من الأشكال. فهل عدل عن إيرادها حتى يعصم عمله من كل ما هو شخصي والباحث يعلم أنّ الموضوع مربك ومحل تجاذبات كبيرة وأي خلاصة سينتهي إليها ستخرجه من دائرة البحث العلمي إلى التصريح بالموقف الإيديولوجي؟
القسم الأول الديمقراطية في الإسلام السني
ينطلق الباحث “الطاهر أمين” من جملة من المقدمات مدارها على غياب نظرية متماسكة للحكم يتبناها سائر الإسلاميين. ويلمح إلى أن منظري الإسلام السياسي كثيرا ما كانوا يتخذون من موضوعة مقاومة الاستبداد تعلة لطرح أفكارهم باحثين عن هذه النظرية المفقودة. ويقارن منجزهم بما انتهى إليه مفكرو الغرب الذين يتفقون على اعتبار الالتزام بمبدأي الشرعية وسيادة الأمة آلية ناجعة لمقاومة مختلف نزعات الاستبداد التي يبديها الحكام ومحاولتهم الخروج عن القيم الديمقراطية. وينتهي إلى أنّ الأمر مختلف عند المفكرين الإسلاميين. فالرأي عندهم أن هذين المبدأين لا يمثلان أي دعامة لحياة سياسية سليمة يرتضيها الإسلام وأن ممارسة الحكم في العالم الغربي منحرفة لتحررها من كل خلفية دينية تراقبها ولاقتصارها على جلب المنافع واللذات للناس.
يعرض أبرز مواقف مفكري الإسلام السني من الديمقراطية. ويوزعها عامة بين قطبين. يمثل أولها الاتجاه الأكثر راديكالية. فيشدد وائل حلاق على التباينات الواسعة بين منظومة الحكم في الدولة الغربية الحديثة والحكم الإسلامي. فمثل هذا الحكم لا يمكن أن يتحقق خارج الاستقلال الأخلاقي ولا يقبل النزول إلى مستوى التشريعات الوضعية أو “التمركز الوضعي” حول الإنسان. فوائل حلاّق، وفق ما يعتقد الباحث، يصادر على أن الميتافيزيقا والدولة الحديثة على طرفي نقيض.
وغير بعيد عن هذه الأفاق يورد الكتاب تصورات أبي الأعلى المودودي المحترزة من الديمقراطية الغربية بدورها. منها ألاّ أساس للشرعية إلا بالله لأنّ سلطته العلوية تتجاوز طموحات البشر وتعلو فوق مطامع الأحزاب. ولا تتحقق هذه الشرعية إلا بالعودة إلى الخلافة، ذلك النظام النموذجي في الحكم عنده. ومن هنا يخلص المودودي إلى تصور فريد للديمقراطية، فهي منهاج للحكم يحقق سلطة الشعب جميعه، ولكنها ليست من الديمقراطية الغربية المموهة التي تنافي قيم الإسلام في شيء. وعليه يقترح مصطلح التيوقراطية الديمقراطية أو الحكومة الإلهية الديمقراطية بديلا. فمن شأن الجمع بين المنظومتين وفقه أن يخول للمسلمين حاكمية شعبية مقيدة بحاكمية النص المطلقة أو بحدود الله.
ولم يكن التفكير السني مجافيا دائما لفكرة الديمقراطية. فيذكر تصورات كثيرة تعمل على الانفتاح على مقولاتها مثلت القطب الثاني من هذا الفكر. ويضع على رأسها تصورات راشد الغنوشي.
يربط راشد الغنوشي، شأنه شأن مختلف مفكري الإسلام السني، الممارسة السياسية بمبادئ الإسلام الأخلاقية. فوظيفة الدولة عنده ليست سياسية خالصة. ولا يمكنها أن تستمد مشروعيتها العليا إلا من سيادة الشريعة فيها. فهذه الأخيرة “تظل سلطة حاكمة فوق كل سلطة. فلا يجتهد الفقهاء إلا في إطارها”. ومن ثمة لا يجد الشورى ليست غاية في حدّ ذاتها ولا يراها سلطة مطلقة. إنها أداة لإقامة العدل ولترسيخ حكم الله في الأرض.
ضمن هذه الآفاق التي يحددها راشد الغنوشي يجتهد رفيق عبد السلام تأسيسا لـ”ديمقراطية إسلامية”. فينقد الديمقراطية الليبرالية المتحللة من كل تسديد الأخلاقي وروحي للحياة السياسية والخاضعة لإكراهات العلمانية التي ظهرت في سياق تاريخي معين. واستنادا إلى إسقاطات مجتزأة من كتابات بعض الفلاسفة الغربيين، وفق الباحث، ينتهي رفيق عبد السلام إلى المصادرة على أنّ الديمقراطية “مفهوم مرن طيّع يمكن أن يعدّل ويغيّر ويستدرك”. وكما أنّ الديمقراطية ديمقراطيات فالعقلانية عقلانيات ولا شيء يمنع المسلمين من تشكيل ديمقراطيتهم الخاصة المستمدة من مفهوم الحاكمية في نهاية المطاف.
انطلاقا من استقراء واسع للتفكير السني ينتهي الطاهر أمين إلى أنّ هذا المشروع الفكري لا يفهم “الديمقراطية الإسلامية” إلا من خلال ارتباط الدين بالدولة. فيراها فرصة لإنقاذ النظام الديمقراطي المعاصر الذي شوهته العلمانية ومادية الرأسمالية ويجد في ذلك ظلالا لمواقف السيد قطب التي لا ترى في الديمقراطية الغربية غير إفلاس قيمي. ولمّا حاول هذا الخطاب أن يتجاوز مواقفه بالبحث عن ديمقراطية إسلامية هيمنت مقولات “المشروعية العليا” و”المرجعية” و”سلطة التقنين” فمثلت الوجه الآخر لمفهوم الحاكمية الذي صاغه أبو الأعلى المودودي.
القسم الثاني: الديمقراطية في الإسلام الشيعي
يعتقد الطاهر أمين أنه من غير الممكن فهم “الديمقراطية في الإسلام الشيعي” دون العودة إلى إرث الإمام الخميني الذي قدم نفسه بكونه وافدا من ذاكرة القرن السابع. فحاز شرعية وراثة قادة الإسلام الشيعة الذين يرتبطون بأصل الإمامة ارتباطا وثيقا. فالفكر الشيعي يتأسس على فكرة غيبة الإمام المهدي الذي اختفى بجسمه عن الأنظار فيرى الناس ولا يرونه إلا في بعض الحالات التي تقتضي ظهوره لتوجيه الناس أو إنذارهم. ويذهب جمهرة فقهاء الشيعة إلى أن قيام الدولة الإسلامية قبل ظهور المهدي أمر غير ممكن. بل إنّ السعي لإقامتها قبل ذلك أمر مناقض للقيم الدينية. فمن شأن قيام دولة كهذه أن تحدّ من المعاصي، وما لم تشع المعاصي لن يظهر المهدي.
رفض الخميني هذا الفكر. وقطع معه. فثبّت ولاية الفقيه التي تعني بالنهاية وصاية عالم الدين على السياسة. فولايته تنبع من ولاية الله وترجع إلى الإيمان بوحدانيته المطلقة ولطفه المطلق. واللطف الإلهي، في فكره، يقتضي وجود فقيه ولي يقود الأمة ويحميها من الضلال حتى عصر النهوض وظهور الإمام المهدي. على هذا النحو فُرض الخميني مرجعية دينية. ثم ثبّت نفسه، بعد انتصار الثورة، مرجعية عظمى لكل الشيعة تنوب عن الإمام الغائب في تنفيذ مبادئ هذه الحكومة الإسلامية. وأقام مؤسسات رسخت هذه الإيديولوجية ضمن النسيج المجتمعي الإيراني. فتصدى لمحاولات تحديث الممارسة السياسية في إيران من منطلقات فكرية غربية موجها أوامره إلى أتباعه/ ” لا تسيروا رواء من يعتبرون أنفسهم مثقفين ويرغبون في تجاوز مفهوم ولاية الفقيه”. فلم يترك “للمؤمن” خيارا. فإما أن يقبل ولاية الفقيه والله من خلفه أو يرضى بحكم الطاغوت ويطيعه.
ورغم محاولات بعض الإصلاحيين لتطوير الفهم السياسي كانت وطأة فكر الخميني ثقيلة. فالتصور الشيعي اليوم لا يقبل بأن يعهد بإدارة الدولة إلى تقني أو إداري. فمثل هذه المهمة الجسيمة لا يقدر عليها غير إمام ومرشد سياسي وديني. ومن ثمة فُهم الدين بكونه سلطة أصولية موكولة من الله إلى المرجعيات الدينية التي لا تسمح بممارسة الحكم خارج مفهوم ولاية الفقيه. ومن تبعات هذا الفهم أنّ الدستور الإيراني اليوم يجعل التفقه الشامل شرطا من شروط ممارسة الحكم.
لا يخرج مسعود برفد، وهو يعرف الديمقراطية الدينية، عن هذا الإرث. فيجدها “منهجا وطريقة للحياة السياسية لأمة ارتضت النظام الديني ووجدت فيه ضامنا للحرية والاستقلال والمشاركة السياسية وتطبيق العدالة الاجتماعية”. ورغم عمل التصورات الإسلامية الشيعية على ترسيخ مفاهيم مثل “أصالة القانون ” و”الجمهورية” و”الحقوق والحريات العامة” ورغم أنّ الإطار العملي للنظام السياسي في الجمهورية الإسلامية الذي صاغه الخميني يشير إلى “تحكم الجماهير في مصيرهم ودورهم الأساسي” و”انبناء النظام السياسي الإسلامي على أصوات الجماهير واقتراعهم” و”مراعاة حقوق كافة الناس” و”إشراف الجماهير في جميع الأطوار السياسية وأساهمهم الحقيقي في كافة المجالات”، يظل جوهر الحكم دينيا إلهيا بعيدا عن أسس الديمقراطية الغربية ذات البعد البشري. وهذا ما يعبّر عنه علي خاميني بكل جلاء. فيدعو إلى “عدم تشبيه حاكمية الشعب الدينية التي تبلورت اليوم في نظام الجمهورية الإسلامية بالديمقراطية الغربية”.
الديمقراطية في الإسلام السني والإسلام الشيعي.. وبعد؟
يعرض الباحث تقييمه لهذا الفكر. فيجد أنّ الإسلام السياسي السني يعمل اليوم جاهدا على مراجعة منطلقات مشروعه الحضاري من أجل استيعاب المفاهيم الحديثة مثل “الدولة” و”المدنية” وتكييف مفاهيمه وفقها شأن مفهوم الشورى ومجالات تطبيقها ومقاصد الشريعة والحريات العامة. ويقدّر الطاهر أمين أنّ هذا الفكر لكن لا ينجح دائما. فيجد أنّ خطابه ظل يتخبط في الفوضى بسبب ضغط الهم السياسي الذي يستعجل إقامة الدولة الإسلامية وقفزه إلى تصدّر البحث على حساب الهم الفكري .
مما حدّ من فاعلية التفكير في الديمقراطية تعامل الفكر الإسلامي سنة أو شيعة معها باعتبارها ميدان صراع حضاري بين الشرق الروحاني والغرب المادي. ومن ثمة يجد هذا الخطاب مرآة تتجسد فيها هواجس الذات في علاقتها الإشكالية بالآخر.
هل يمكن أن نعتبر أن الخطابين متماثلان والحال أنهما يختلفان في الموقف من الوحي وولاية الفقيه والعصمة والتقية؟ لا تؤثر هذه الاختلافات في جوهر مقاربة الخطاب الإسلامي للديمقراطية وفق الباحث. فتظل، سنة أو شيعة قائمة على أسس الحاكمية والعصمة الإلهية، ترى في الديمقراطية الغربية مخالفة لأسس النظام الإسلامي وانتصارا للبشري على حساب الإلهي. ومن ثمة يظل التفكير العميق فيها “معلقا في أفق الانتظار” ما لم يحسم في مدى ارتباطها بتطبيق الشريعة وما لم يقع التمييز بين مبدإ حاكمية الله ومبدأ سيادة الشعب تمييزا دقيقا لا لبس فيه يقطع مع مختلف أشكال التحايل على العجز عن صياغة مشروع حضاري إسلامي حقيقي يواجه أسئلته المحرجة.
جاء الكتاب استقرائيا وصفيا في مجمله وكان حريصا على عدم الانحياز لفكر دون آخر. وهذا تمش محمود يجعل الحاجة إليه أكيدة. فمن شأنه مساعدتنا على تفكيك آليات عمل العقلين الفكريين السني والشيعي في ظل سياق سياسي متفجر وصدامات بينها مدمرة. ولكنه لم يخل من هنات حدت من قيمته وقلصت فائدته. فالباحث لم يجعل معارفه تتراكم ضبطا للأنساق الناظمة والأصول التي تمثل مختلف التصورات تفريعا لها، ولم يقف عند المفاهيم الكبرى العابرة لمختلف المقاربات ولم يرصد تطورها. وبدل ذلك أغرق في عرض التفاصيل والجزئيات التي ترد في مشروع هذا المفكر أو ذاك. وهذا ما عسّر قراءته.
يعلن الباحث رفضه الانخراط في الصراع السني الشيعي. وهذا ما نلمسه بجلاء. ولكن هل أنّ هذا الحياد كان نتيجة لترفّع العالم عن المهاترات السياسية والجدل العقيم كما يعلن في بداية الأثر؟ نعتقد أن لحياده سببا آخر. فالباحث يفكر من خارج النسقين معا. فلا يجد أي معنى لجعل الإسلام أسّا لتحديد هوية الديمقراطية، ويرى أن تصور الإسلاميين لها يبقى غامضا وأنهم ينزعون باستمرار لجعل الدولة أداة لفرض الأخلاقيات الإسلامية. ومردّ ذلك قناعة متأصلة في فكرهم مدارها على أنّ الفصل بين الديني والسياسي ضرب من الشذوذ.
يعمل الباحث على الضن بآرائه الخاصة، وإن كانت كثيرا ما تنفلت منه فتتسرب واضحة. ولذلك جعل أثره أبتر بلا خواتيم تذيّل أقسامه أو عامّة عمله. ولكن وجهة نظره تعلن بجلاء أكبر في عتبات الكتاب لا في متنه. يقول في الإهداء: “إلى ابنتي يمان: من أجل أن لا تظل الدولة في صحراء العرب القاحلة بنية قهرية. الديمقراطية مبدأ سياسي وليست سلطة ما ورائية مقدسة. فالله يشترط أن يكون عباده أحرارا حتّى إن اختاروا الكفر على الإيمان” فيعلن رفضه للتضييقات التي يفرضها الخطاب الإسلامي من منطلق مبدإ الحاكمية لله ويجدها تمهيدا لـ”سلطة قهرية مقدسة” تخوض في الشأن العام من منطلق ثنائية “الكفر والإيمان” وهذا ما يجعله يذكر منذ المقدمة أن “الحديث عن ديمقراطية إسلامية ضرب من الشطح الفكري”.
*جامعي تونسي