وعد بلفور .. وعد من لا يملك لمن لا يستحق.. قراءات تاريخية
صالح لطفي .. باحث ومحلل سياسي.
أمس الخميس كانت الذكرى المئوية لوعد بلفور الذي بموجبه حسمت الحضارة الغربية نهائيا علاقاتها الوظيفية مع الصهيونية باعتبارها ممثلة للجماعات اليهودية وذلك لوضع العقد ” الصامت” بينهما موضع التنفيذ. وهو وعد من لا يملك لمن لا يستحق ووفقا للرسالة التي ارسلها آرثر بلفور الى الملياردير اليهودي “غير الصهيوني” روتشيلد وتنص على:[” وزارة الخارجية … في الثاني من نوفمبر/ تشرين الثاني سنة 1917، عزيزي اللورد روتشيلد : يسرني جداً أن أبلغكم بالنيابة عن حكومة جلالته، التصريح التالي الذي ينطوي على العطف على أماني اليهود والصهيونية، وقد عرض على الوزارة وأقرته: “إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى إقامة مقام قومي في فلسطين للشعب اليهودي، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يفهم جلياً أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في أي بلد آخر“.وسأكون ممتناً إذا ما أحطتم الاتحاد الصهيوني علماً بهذا التصريح. المخلص.. آرثر جيمس بلفور]..
سبق هذا الوعد .. وعود من نابليون، والقيصر الروسي والقيصر الالماني.. وقد مرَّ هذا الوعد “البريطاني “، بتعديلات عديدة حتى خرج بنصه المعروف والموجود بيننا اليوم …. ووعد بلفور نفسه بنسخته الاخيرة سبقته اربع مسودات الاولى كتبت من طرف الحركة الصهيونية وذلك في يوليو\ تموز من عام 1917، والثانية كتبها بلفور نفسه في اغسطس من عام 1917 ، والثالثة كتبها السياسي البريطاني آلفريد ميلنر في اغسطس من نفس العام ، والرابعة خطها كل من آلفريد ميلنر وليوبولد تشارلس آمري-يهودي \صهيوني شغل منصب وزير المستعمرات – وذلك في الرابع من اكتوبر تشرين اولعام 1917 وكانت المسودة النهائية قد كتبت في 31-10-2017.. ومعلوم تاريخيا ان الحركة الصهيونية حصلت على موافقات مبدئية من كل من المانيا وتركيا على الاهتمام باليهود والعمل على حصولهم على حكم ذاتي داخل فلسطيني، ونحن هنا لا نتطرق للسياق التاريخي وكيف صدرت هذه التصريحات\الوثائق وخلفياتها وأسبابها بقدر ما ان الحقيقة التاريخية تؤكد صدورها ..
تزعم هذه المقالة أنَّ وعد بلفور بنسخته البريطانية الاخيرة هو نتاج علاقات جمعت الابعاد الدينية والليبرالية الاستعمارية والمصالح المشتركة والمتناقضة في أن معا بين القوى الاستعمارية داخل اوروبا، ولذلك فإسرائيل هي حاجة اوروبية من منظور حضاري وليس من منظور “تجاري-مصلحي” فحسب .. وفي السياسات عادة ما تكون ضحايا المصالح الشعوب والجماعات المغلوبة والمقهورة ولو ادى ذلك الى تشريدها او ابادتها او تطبيق نظريات مالتوس، أي تقليص عددها بشريا عبر الحروب والابادة والتقليم السكاني.
خلفيات تاريخية- فكرية- دينية..
بهذا التصريح البلفوري المكون من 117كلمة في اللغة الانجليزية و72 كلمة باللغة العربية “الترجمة” غير هذا التصريح \الوعد\العقد الصامت معادلات المنطقة والجغرافيا السياسية لها وأدت إلى اقتلاع شعب لا يزال يعاني الى هذه اللحظات من هذا الاقتلاع، وكان المؤرخ الانجليزي آرنولد توينبي قد أعرب عن غضبه وخجله من هذا التصريح\الوعد” كإنكليزي أشعر بالخجل الشديد على ازدواجية المعايير الأخلاقية التي حكمت سلوك حكومة بلدي على هذه الفعلة المنكرة”.
يذهب المفكر العروبي المصري عبد الوهاب المسيري في موسوعته “اليهود واليهودية والصهيونية- المجلد السادس- الى انه تم صياغة عقد صامت بين الحضارة الغربية والحركة الصهيونية يقضي بنقل اليهود من اوروبا الى فلسطين وفقا لاحتياجات الصهيونية مع بقاء الاغنياء اليهود في حضن الحضارة الغربية وبذلك تتقاطع مصالح الاوروبيين والصهاينة، تتخلص اوروبا من الفائض البشري اليهودي وتحقق الحركة الصهيونية حلم قيام الدولة “الصهيونية” المتقاطعة مع نظريات المسيحيين-الصهاينة الذين بشروا بالألفية الجديدة واعتبروا عودة المسيح الى فلسطين شرطا لازما في تلكم العودة .. وهكذا خدمت المسيحية بشقيها الكاثوليكي والبروتستانتي الحركة الصهيونية ففي حين فرضت الاولى الجيتو على اليهود لمنعهم من الانخراط بالمجتمعات المسيحية وتخليص اوروبا من مشاكلهم اسهمت بتنمية وتعظيم الخصوصية اليهودية وفرادتها مؤسسة بذلك لطهورية العرق اليهودي فإن البروتستانتية أسهمت في تمكين الحركة الصهيونية وإعادة إحياء المنزع الديني للمسألة اليهودية لتمهد الطريق للحركة الصهيونية التي كانت تتخلق في رحم تلكم الحضارة في العودة الى “صهيون” لتحقيق المصالح الرأسمالية الاوروبية خاصة بعد أن اشتد عود مدرسة الاصلاح الديني الذي قاده كالفن وأسست افكاره للاستعمار الحديث المؤسس على منازع دينية-راسمالية ، فالحركة الصهيونية ولدت ونمت في رحم الحضارة الاوروبية دعت الى اصطناع قومية لليهود يتجمعون بناء عليها على ارض فلسطين برسم ان هذه البلاد هي حقهم الديني الذي منحهم اياه الرب تبارك وتعالى، وانطلقت هذه الفكرة، أي الفكرة الصهيونية، من ان اليهود-عاشوا في الجيتوات- أينما كانوا يمثلون شعبا واحدا[العضوية البيولوجية] وهم غير قابلين للانخراط او الاندماج\الانصهار في مجتمعات اخرى وهو ما جعلهم مادة للاضطهاد والقهر والمطاردة ، الامر الذي يعني بالضرورة العمل على تأسيس كيان سياسي يخلص اليهود من عذاباتهم التي يتعرضون لها من جهة ويحقق أمانيهم بقيام كيان يحفظهم، وهو ما تقاطع مع المصالح الاستعمارية الاوروبية التي أخذت تتصاعد وتتطور منذ ان تقاطعت النهضة الاوروبية خلال القرن السادس عشر وحركة الاصلاح البروتستانتي وحركة الكشوف الاوروبية وكان من النتائج الواضحة للإصلاحية البروتستانتية الاهتمام بالنبوءات التوراتية المتعلقة باخر الزمان وضرورات البعث اليهودي لتحقيق تلكم النبوءات ولذلك فأنَّ أول من طرح فكرة توطين اليهود على ارض فلسطين هو مؤسس المذهب البروتستانتي مارتن لوثر-1483-1546..” لقد أدى إيمان البروتستانتية المطلق بأفكار التوراه إلى وجود فكر يربط بين الديني والسياسي وبين مجيئ المسيح وإقامة دولة يهودية، ففي عام 1615 طالب البرلماني السير هنري فينش حكومة بلاده بدعم اليهود ليرجعوا لأرض الموعد قائلاً ” ليس اليهود قلة مبعثرة، بل إنهم أمة، ستعود أمة اليهود إلى وطنها، وستعمر كل زوايا الأرض وسيعيش اليهود بسلام في وطنهم إلى الأبد”؛ وفي عام 1649م رفع اثنان من علماء الأديان الإنجليز خطاباً إلى حكومتهم جاء فيه: “ليكن شعب إنجلترا أول من يحمل أبناء إسرائيل على سفنهم إلى الأرض التي وعد بها أجدادهم إبراهيم وإسحاق ويعقوب لتكون إرثهم الأبدي”. وقد تجسدت الصهيونية المسيحية في بعدها السياسي الأيديولوجي للمرة الأولى في بريطانيا عام 1655 عندما دعا “أوليفر كرومويل” رئيس المحفل البيوريتاني بوضوح الى العمل على اعادة اليهود الى ارض فلسطين ….ومن هنا بدأ الاهتمام المبكر في فلسطين التي كانت جزءا من بلاد الشام وجزءا من الدولة \الخلافة العثمانية… ثلاثة تحولات تاريخية كبرى في اوروبا عموما والدول البروتستانتية تحديدا دفعت بقوة بالمسألة اليهودية الى واجهة الاحداث ليتحقق عمليا ذلك العقد الصامت( هو مصطلح نحته المفكر المسيري رحمه الله ذاهبا لتفسير العلاقة بين الحركة الصهيونية والاستعمار الاوروبي الذي خلص في النهايات الى توقيع الاتفاق مع بريطانيا ) فقد كانت مصالحها التجارية هي الاكبر من بين القوى الاستعمارية وكانت الاكثر رسوخا في المنطقة واعتبرت الهلال الخصيب جسرا طبيعيا للوصول الى الهند وعملت على إنفاذ وعد بلفور للحيلولة دون تغلغل الاستعمار الفرنسي والالماني والروسي الى المنطقة او اعادة تشكيل المنطقة من جديد بحيث تبقى المنطقة تحت رايات الدولة.
التحولات التي اشرت اليها هي: الثورة الصناعية والتي أدت إلى التسلط الكلي وهيمنة الافكار الاستعمارية على اوروبا ذاتها وانسحابها الى الخارج لاستعماره، ظهور الحركة الصهيونية كحركة ذات تصورات فكرية ومنهجية ونجاحها في التغلغل في نسيج المجموعة اليهودية والمجتمعات الاوروبية وامساكها بزمام المال اليهودي في اوروبا خاصة بعد ان نجح هرتسل بتأسيسها رسميا من خلال المؤتمر الصهيوني الذي اضحى جسما رسميا فاعلا بين يهود العالم وإن اعترض عليه عدد من اليهود العلمانيين والمتدينين، والحرب العالمية الاولى التي قلبت الاوراق وغيرت معادلات وأدخلت الاستعمار البريطاني والفرنسي في حرج شديد وقد نجم عن هذه الحرب تغييرات جذرية في الخارطة السياسية الاوروبية والمنطقة تركت اثارها على العالم اجمع ووضعت نتائجها بذرة الحرب العالمية الثانية وكشفت عن ضعف الامبراطوريتين البريطانية والفرنسية وبروز نجم الولايات المتحدة الامريكية كقائد عالمي جديد وهو ما نجحت الحركة الصهيونية باستثماره استثمارا تاما، وفي خضم تلكم السنوات الموار كانت المانيا تسعى لتحقيق مكانة لها تحت شمس المشرق العربي بعد أن تعرفت عليه استشراقيا ، فكانت اسهاماتها في نمو تركيا ونهضتها بعد الاصلاحات التي ادخلها السلطان عبد المجيد الاول -وهو بحق في نظري مؤسس تركيا الحديثة – واستمر بها ابنه السلطان عبد الحميد الثاني الذي رأى بألمانيا حليفا يمكن الاعتماد عله لتثبيت اركان دولته فقد تنبه الى الدور الاستعماري البريطاني والفرنسي ومعهما الحركة الصهيونية لتفكيك الدولة العثمانية وقضم اراضيها وراى بتقاطع تلكم المصالح – بينه وبين المانيا- فرصته لإعادة لحمة دولته من خلال اسهامات المانيا في مد خط سكك الحديد العثماني الذي شكل ظهيرا قويا لتعزيز سيطرة الدولة التركية على اراضيها المترامية الاطراف وهو ما تحسبت بريطانيا منه لأنه سيكون حاجزا جوهريا واستراتيجيا امام تمددها في المنطقة ، وقد يقطع محاولاتها اكمال استعمارها للصين ولشبه القارة الهندية التي شكلت خزانا غذائيا وبشريا لحركتها الاستعمارية، ولذلك كانت استجابة بريطانيا للضغوطات الصهيونية مدروسة بعناية ودقة بالغتين وهو ما يدفعني للقول بأن العرب والاتراك خسروا فرصة كبيرة كان بالإمكان استثمارها واللعب على المتناقضات الدولية والحيلولة دون تمادي المشروع الصهيوني بيدَّ أنَّ الفقرين العلمي والتخطيطي الاستراتيجي عند العرب وتغول الطورانية التركية في تركيا [ أنظر كيف تمَّ استدراج تركيا للحرب العالمية الاولى وكيف استدرج العرب لموالاة الاستعمار البريطاني] حال دون استثمار تلكم اللحظات التاريخية التي يدفع العالمين العربي والاسلامي الى هذه اللحظات ارتداداتهما.
في عام 1799 اعلن نابليون عن استعداده للسماح لليهود بإعادة بناء الهيكل في القدس اذا ما ساعدوه على بريطانيا في حربه العظمى ضدهم، وذلك من اجل سيطرته على الشرق الادنى والطريق المؤدية الى الهند، ومن بعده اعلن بسمارك عن رغبته في منح اليهود كيانا في منطقة الفرات “العراق” لحماية مشروع الخط التجاري الالماني الذي كان بسمارك يخطط لإنشائه عبر البصرة العراقية للوصول الى الشرق الاقصى ، [ لاحظ الدور الوظيفي الذي يراه الاوروبيون في الحركة الصهيونية ] للخروج من ربقة بريطانيا التي كانت قد سيطرت على الطرق التجارية المؤدية للشرق الاقصى.
ظهر اهتمام بريطانيا بفلسطين مبكرا فافتتحت اول قنصلية لها بالقدس في ظل الحكم العثماني عام 1838م تحت ذريعة الاهتمام باليهود وحمايتهم ، وأسست صندوق اكتشاف فلسطين عام 1864م تحت رعاية الملكة فكتوريا ملكة بريطانيا، وقد ساهمت هذه المؤسسة باستكشاف فلسطين والمنطقة لصالح الاستعمار البريطاني فدرست تاريخ وجغرافية وطبوغرافية وعلم اثار هذه البلاد فضلا عن عادات وتقاليد وممارسات اهلها، ولقد كانت غالبية تقارير هذه المؤسسة موجهة للحكومة الاستعمارية البريطانية وتحمل طابعا مسيحيانيا -صهيونيا ، ونبهت اوراق ودراسات هذه المؤسسة الحكومة الاستعمارية الى ضرورة اقامة كيان استيطاني على ارض فلسطيني ينعم بالحماية البريطانية الاستعمارية وقد ركزت مباحثهم على ارض الخليل ومرج ابن عامر والساحل الفلسطيني – وهي المناطق التي سارعت الحركة الصهيونية باستيطانها فور حلولها على ارض فلسطين، وهو ما يؤسس الى ان الوعد المذكور تداخلت في معطياته الابعاد الدينية والمصلحية الاستعمارية خاصة وان قراءات دقيقة للنص الاخير للوعد تؤكد ما نذهب إليه.
في عام 1845 طالب إدوارد ميتفورد حكومته البريطانية بضرورة ” إعادة اليهود الى فلسطين بأي ثمن وإقامة دولة خاصة بهم تحت الحماية البريطانية “، وفي عام 1882 تبنى الاسقف الانجليكاني لمدينة فينا ولييم هشلر نظرية: العودة وتحقيق النبوءات فطالب” بعودة اليهود الى فلسطين تحقيقا وتجسيدا للتعاليم التوراتية باعتبار ان قيام اسرائيل” يستجيب للتعاليم التوراتية “.. وفي عام 1887 تأسست في الولايات المتحدة منظمة ” البعثة العبرية نيابة عن اسرائيل لتشجيع الهجرة الى فلسطين”.
الحركة الصهيونية واستثمار اللحظة التاريخية وثنائيات المصالح..
في عام 1897 عُقد المؤتمر الصهيوني الاول في مدينة بازل السويسرية وفيه اتخذ القرار بإنشاء وطن قومي لليهود، وقد أدرك هرتسل بحسه السياسي أنه أزفت وقربت ساعة قيام اسرائيل فشهية اوروبا لاستعمار الدولة العثمانية وتوزيع ارثها بات حديث الاندية الاستعمارية وبدأت الامتيازات التي منحتها الدولة العثمانية للأوروبيين ايام عزوتها وقوتها تتحول الى اثقال ومداخل لتغول اوروبا الاستعمارية على اراضيها ، وأيقن هرتسل أن قيام وطن لليهود أضحى حاجة استعمارية لا محيص عنها خاصة بعد أن تجلت اهمية الشام والعراق بسبب استعمار بريطانيا وفرنسا لشرق واواسط اسيا خاصة الهند وازدادت هذه الشهية بعد افتتاح قناة السويس سنة 1869 واكتشاف النفط في مصر سنة 1866 وفي ايران عام 1906 وفي العراق1912 ولذلك ازدادت اهمية فلسطين التي تمتعت آنذاك بميناءين، وهو ما دفع هرتسل لاستثمار هذه اللحظة التاريخية التي ايقن انه ان فاتت فلن تعود.
تكررت في عموم اوروبا مقولة اضحت كالانجيل في المنتديات العلمية والفكرية والعسكرية والسياسية وهي المطالبة بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين ، وجاءت هذه المطالب في ظل ارتفاع اصوات استعمارية تطالب باحتلال اراض الدولة العثمانية وتقسيمها بين المحتلين ومنح اليهود دولة مرتبطة بالاستعمار البريطاني الذي تميز بجشعه.
في عام 1840 قدم اللورد شافتسيري مشروعا الى رئيس وزراء بريطانيا بالمرستون حمل شعار” ارض بلا شعب لشعب بلا ارض”، ودعا فيه بريطانيا الى تبنيه والعمل على توطين اليهود على ارض فلسطين واقامة دولتهم الخاصة بهم وقد اعلن بالمرستون رئيس الوززراء انذاك في هذا المؤتمر المعروف تاريخيا باسم مؤتمر لندن دعوته لإيجاد “كومونولث يهودي في النصف الجنوبي من سورية، أي على ارض فلسطين” وفي عام 1844 تأسست في بريطانيا جمعية مهمتها اعادة وارجاع اليهود الى فلسطين عرفت بأسم ” الجمعية البريطانية والاجنبية للعمل على اعادة وارجاع الامة اليهودية الى فلسطين” وطالبت هذه الجمعية التاج البريطاني بمنح اليهود الحق في تأسيس دولتهم على ارضهم التوراتية الممتدة من الفرات الى النيل ومن البحر المتوسط الى تخوم الصحراء.
بعض المؤرخين يعتقدون ان صدور الوعد في تلكم اللحظة التاريخية لم تكن له أي قيمة قانونية باعتباره صادر من شخص وموجه الى شخص وهنا الشخص الموجهة اليه الرسالة هو ليونيل وولتر روتشيلد الذي لم يكن صهيونيا بقدر ما أن القضية ارتبطت باعتبارات وإملاءات فرضتها الحرب آنذاك حيث كانت المانيا تضغط على تركيا لتلبية مطالب الصهاينة كما صرح بذلك لويد جورج فالمصلحة البريطانية الزمت بريطانيا بالاهتمام بمقترحات الصهاينة وقد اشرنا في بادئ المقالة الى التغيرات التي طرأت على مسودات الوعد حتى صدر بصورته النهائية .
الملفت للنظر ان بريطانيا التي اصدرت الوعد مهتمة بمصالحها لم تتنازل عن القيم الدينية الثانوية وإن لم يحظ فور صدوره بمصداقيات قانونية فالدولة العثمانية صاحبة الولاية على هذه البلاد رفضته جملة وتفصيلا، فقد أكدت بريطانيا في اصدارها له على كونها قوة استعمارية تصارع على مصالحها ووجودها مقابل الاستعمار الالماني واعتمدت كما يشير المسيري الى الظهير الامريكي الذي كان له دور في اصداراته النهائية بعد انتهاء الحرب العالمية الاولى وجعله جزء من مقررات فرساي سنة1919 ومن ثم جزء وثيقة تأسيس عصبة الامم وميثاقها ومن ثم مقررات سان ريمون ومعاهدة سيفر واخيرا صك الانتداب الذ اقرته عصبة الامم.
الدراسات المتجددة
من الضرورة بمكان اعادة دراسة تلكم المرحلة التاريخية من الحقبة الاستعمارية والبحث التاريخي-القانوني المعمق في العلاقات الثانوية بين تأسيس منظومة عالمية وقيام اسرائيل على اساس من وعد صدر كما اشرنا في ظروف غاية في التناقضات وتقاطع المصالح.
لا بدَّ من دراسات الكلفة الاقتصادية التي تحملها الشعب الفلسطيني منذ الوعد والى هذه اللحظات وتحميل حكومة بريطانيا نتائجها ودفع ثمنها فالشعوب التي تقهر وتظلم عدوانا لا بدَّ ان يعاقب من اجرم بحقهم ولنا في كيفية ملاحقة الحركة الصهيونية للنازيين الدرس والعبرة .
لا بدّ من اعادة النظر في التركة التي نجمت عن استعمار منطقتنا وتفكيكها لصالح المشروع الصهيوني والمشاريع الاستعمارية القائمة الى اليوم وما هو الدور الذي لعبته قيادات عربية في تلكم اللحظات التاريخية الفارقة لصالح الحركة الصهيونية ومن بعد بحث سبل الخلاص من هذا الوعد وتداعياته بناء على سنن المجايلة والتدافع .