آيا صوفيا .. رمزية الصراع بين المتحف والمسجد
مرة أخرى يضع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان نفسه على مشارف مواجهة جديدة مع الغرب بإعلان عزمه تحويل متحف آيا صوفيا الذي كان كنيسة تاريخية إلى مسجد.
وفي هذا الملف تحديدا وبحكم الخزان التاريخي وإرثه الملتهب بالانتصارات والهزائم، تختلط السياسة وحساباتها، بالدين والمشاعر الدينية، بالجغرافيا وحدودها مرورا بالعواطف وتقلباتها وحدود تحكيم العقل فيها .
مشهد جديد يظهر فيه أردوغان رمز “العثمانيين الجدد” متحدثا عما صمت عنه رؤساء وحكام كثيرون في عالمنا العربي والإسلامي بعد مذبحة المسجدين في نيوزيلندا، يرد على حجج الإرهابي الأسترالي منفذ المذبحتين.
الرئيس التركي توقف عن دلالات عبارة وردت في البيان الطويل الذي أعدّه هذا الإرهابي الأسترالي وقال فيه “إن كنيسة آيا صوفيا ستتحرر من مآذنها”. ورد أردوغان على هذا الكلام بالقول “لن تتمكنوا من جعل إسطنبول قسطنطينية”.
وفي خطاب خلال مشاركته باحتفالات الذكرى السنوية الـ 104 للانتصار البحري للدولة العثمانية بمعركة “جناق قلعة” عام 1915 و”يوم الشهداء” قال أردوغان “سنبقى هنا إلى يوم القيامة، ولن تجعلوا من إسطنبول قسطنطينية”.
إرث التاريخ
إسطنبول التي يتمسك أردوغان بهويتها الجديدة هي الاسم الجديد الذي أطلقه العثمانيون على القسطنطينية بعد أن فتحوها عام 1453، وتعد عاصمة أكبر إمبراطوريتين دينيتين البيزنطية المهزومة والزائلة، والعثمانية المنتصرة والحاضرة.
أما متحف آيا صوفيا الحالي فكان الكنيسة الرئيسية في القسطنطينية، عاصمة الإمبراطورية البيزنطية، بناها الإمبراطور يوستنيانوس سنة 532 ميلادية، واختار مدخل مضيق البوسفور والقرن الذهبي واستغرق بناؤها خمس سنوات، وكانت تشهد تتويج الأباطرة البيزنطيين.
بعد فتح القسطنطينية ودخول السلطان العثماني محمد الفاتح المدينة حُوّلت الكنيسة إلى جامع فأضيفت إليها المحارب والمآذن في محيط القبة البيزنطية، وغطيت معظم الجداريات والفسيفساءات الكنسية بالطين.
وفي عهد الزعيم العلماني مصطفى كمال أتاتورك (مؤسس تركيا الحديثة) تعرض الموقع للإهمال فأصبح مكانا مهجورا قبل أن يتحول إلى متحف سنة 1932، وأدرج ضمن قائمة التراث العالمي لليونسكو باعتباره واحدا من أعظم مآثر الهندسة البيزنطية.
إشارات
منذ وصول حزب العدالة والتنمية بزعامة أردوغان الحكم عام 2002، يخشى المدافعون عن العلمانية إعادة آيا صوفيا مسجداً، وظل الأمر في دائرة الافتراضات حتى عام 2011 حيث أعمال ترميم منبر يعود إلى الفترة العثمانية بمتحف أيا صوفيا.
وواكب عمليات الترميم تلك إعلان بولنت أرينك نائب رئيس الوزراء عن “تغيرات جذرية ستجري في هذا الصرح التاريخي” وتوقعت الصحف التركية أن المتحف قد يعود قريبا مسجداً.
وأواخر 2013 ألمح أرينك إلى إمكان تغيير الطبيعة الحالية لمتحف آيا صوفيا، قائلاً “إن هذا الصرح حزين، وآمل أن يستعيد ابتسامته قريبا” وأثار هذا التصريح غضب اليونان التي اعتبرته “مهينا لملايين المسيحيين”.
ومساء يوم 11 أبريل/نيسان 2015 شهدت آيا صوفيا للمرة الأولى منذ 85 سنة تلاوة آيات من القرآن الكريم خلال افتتاح معرض استمر أسبوعا يحمل عنوان “حب النبي” شارك فيه مسؤولون أتراك، وفي العام التالي، بدأت السلطة الدينية التركية تستضيف وتبثّ قراءات دينية خلال شهر رمضان المبارك.
أثار الأمر غضب اليونان، وبلغ ذروته بعد إحياء ليلة القدر في شهر رمضان صيف 2017 حيث تجدد التوتر بين أثينا وأنقرة التي أدانت بشدة تصريحات يونانية بشأن تلاوة القرآن ورفع الأذان في آيا صوفيا.
وتطرق الرد التركي على الاحتجاجات اليونانية ذلك الوقت إلى “اضطهاد أثينا للأقلية التركية المسلمة، ورفض السلطات اليونانية أيضاً مطالب المسلمين بأداء صلاة العيد لهذا العام بأحد المساجد التاريخية الموجودة بمدينة سالونيك التي لا يوجد فيها مساجد مفتوحة على الإطلاق”.
وفي 29 مايو/أيار 2015، وفي ذكرى فتح العثمانيين مدينة القسطنطينية عام 1453، صلى الآلاف أمام متحف آيا صوفيا الذي يعد قبلة للسياح، ثم رددوا شعارات تطالب بتحويل المتحف إلى مسجد مجدداً، والسماح لهم بالصلاة داخله.
التوقيت
شهدت السنوات الماضية عدة تجمعات وصلوات في الساحة المحاذية لآيا صوفيا تطالب بإعادة فتحه مسجدا، لكن ثمة تصريحات للرئيس أردوغان قبل خمس سنوات قال فيها إنه لن يفكر في تغيير وضع آيا صوفيا “ما دام هناك صرح عظيم آخر مخصص للعبادة في إسطنبول، هو مسجد السلطان أحمد” مشيرا إلى أن إسطنبول بها أكثر من ثلاثة آلاف مسجد.
يتباين تصريح أردوغان -الذي مضى عليه خمس سنوات-مع موقفه الأخير، فخلال الأسبوع الماضي تحدث الرئيس مرتين عن تحويل متحف آيا صوفيا إلى مسجد معتبرا أن “الأمر ليس مستحيلا”.
وحول ردود الفعل الغربية المحتملة إذا ما اتخذ مثل تلك الخطوة، استشهد أردوغان بالصمت الغربي تجاه ما يحدث بالمسجد الأقصى قائلا “البعض يخرج علينا ليطلب منا ألا نفعل ذلك، وهم لا ينبسون ببنت شفة حيال ما يحدث من اعتداءات على المسجد الأقصى حيث يدخله الجنود بأحذيتهم ويلقون بالمصاحف على الأرض”.
وخلص إلى القول “نحن مسلمون، ومثل هذه الأمور تضايقنا، لذلك على الصامتين حيال ذلك ألا يخرجوا ليعلمونا ما نفعل أو لا نفعل”.
هذا التغير باللهجة تجاه آيا صوفيا يعود في أحد جوانبه إلى تداعيات المذبحة الإرهابية التي استهدفت مسجدين في نيوزيلندا يوم 15 مارس/آذار الجاري وقام بها إرهابي يميني أسترالي مما أدى إلى مقتل خمسين مصليا وإصابة العشرات.
كما يربطها البعض أيضا بالانتخابات المحلية التركية والمقررة بعد غد الأحد وهي الأولى بعد تحول نظام الحكم إلى الرئاسي، وتحتدم فيها المنافسة خصوصا بالمدن الكبيرة مثل إسطنبول وأنقرة، حيث يرون في تلك اللهجة سعيا من حزب العدالة والتنمية الحاكم لجذب أصوات أوسع قطاع من أنصار تحويل المتحف إلى مسجد.
وإلى أن تظهر نتائج تلك الانتخابات التي سيتقرر بعدها هذا الأمر -حسب ما ذكر أردوغان بمقابلة تلفزيونية الأسبوع الماضي-ستشكل عواقب القرار اختبارا للرئيس التركي والاتحاد الأوروبي معا الذي يسعى إلى انضمام بلاده إليه، فهل ستقبل دول الاتحاد قائدا تراه يحمل عقلية محمد الفاتح؟
المصدر: الجزيرة