استفتاء البرزاني-نتنياهو
سهيل كيوان
تطفو على السطح في هذه الأيام قضية الاستفتاء الذي أعلنه رئيس إقليم كردستان العراق، مسعود البارزاني، وذلك في 25 من الشهر الجاري، والذي لم يؤيده في العالم سوى رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو.
الكرد جزء فعال جدا من نسيج المنطقة العربية، ولهم ثقلهم الإقليمي الذي يزيد عن دول مستقلة خصوصا في السنوات الأخيرة، وهم موزعون كأقليات قومية في أربع دول هي العراق وسورية وإيران وتركيا، ولهذا استغلت قضيتهم دائما كورقة مساومة للضغط على الجيران والحكومات المركزية أو للتخفيف عنها حسب الظرف التاريخي.
سعت إسرائيل للبحث عن حلفاء لها في المنطقة لاختراق الطوق العربي حولها منذ قيامها وحتى قبل ذلك، عملت في أفريقيا وسعت إلى محاصرة مصر وبنت علاقات مع دول إفريقية من خلال مد يد العون العسكري بشكل خاص وحراسة الحكام والتدريبات، ولها حضور في الكثير من دول إفريقيا، أما على الجبهة الشرقية فقد استغلت قضية الأكراد، فبدأت بعلاقات مع قادتهم بغطاء مساعدات إنسانية وبالسلاح والتدريب.
إسرائيل من خلال تقوية الأكراد وتسليحهم منذ زمن شاه إيران، محمد رضا بهلوي، إلى دفعهم للتحرش بالقوات العراقية لإبقائها في حالة تأهب وإشغالها من أن تكون ظهيرًا للقوات السورية والأردنية في الستينات من القرن الماضي، يوم كان ما يسمى الجبهة الشرقية، وخصوصًا أن العراق كان مناصرًا للفلسطينيين، وأرسل قوات في كل الحروب منذ عام 48 وخصوصًا عام 1973 حيث أنقذ الجبهة السورية من الانهيار التام.
في عام 1963 وصل مندوب عن الملا مصطفى البارزاني، والد مسعود البارزاني، الزعيم الحالي إلى تل أبيب، وأخبرهم أن إيران الشاه معنية بإشعال نيران في كردستان العراق ولكن شرط أن لا تتحول إلى حريق شامل وذلك لإشغال العراق وإضعافه، وعلى أثره زودت إسرائيل الأكراد بتقنيات مخابرات متطورة للعمل لصالح الموساد وحليفه جهاز المخابرات الإيراني (السافاك).
تطورت العلاقة بين إسرائيل والزعيم الكردي الملا مصطفى البرزاني وبلغت ذروتها ما بين الأعوام 1965 إلى 1975، فزار إسرائيل في العام 1968 واستقبله رئيس الموساد في حينه، مائير عاميت، بحفاوة.
درّبت إسرائيل قوات البشمركة وجهاز الأمن السري الكردي، ويعتبر الضابط الإسرائيلي، تسوري ساجي، المدرب الأول للبشمركة، بل وخاض معها معركتين ضد الجيش العراقي كموجّه ومستشار وسبّب للعراق خسائر كبيرة بعد إحراق مصافي بترول في كركوك.
في العام 1970 منح العراق لإقليم كردستان حكما ذاتيا وقعه النائب صدام حسين في حينه، كمبعوث من الرئيس العراقي، أحمد حسن البكر، وهذا ما منع الأكراد من إشغال القوات العراقية عام 1973 في حرب أكتوبر، إضافة إلى أن علاقة الشاه كانت جيدة مع أنور السادات الذي قاد الحرب ضد إسرائيل والذي رأى فيه الشاه حليفا في المنطقة، إضافة إلى أن الاتحاد السوفييتي في حينه حرك لواءً باتجاه الحدود مع إيران لردع أي عمل من شأنه إشغال العراق عن دعم الجبهة في الجولان، فقد كانت مصداقية السوفييت على المحك والحرب الباردة مع الغرب في أوجها.
علاقة الشاه بدأت تسير نحو التهدئة مع العراق، بعدما أوقف العراق دعمه لحزب مجاهدي خلق الإيراني، وتكللت جهود عربية بتوقيع اتفاق في الجزائر بين العراق وإيران عام 1975 حول مياه شط العرب، الأمر الذي أدى لقطع شريان الدعم الإسرائيلي للكرد عن طريق إيران مقابل وقف دعم العراق لمجاهدي خلق الإيراني.
في السنوات الأخيرة وبعد تدمير العراق وتغير نظام الحكم فيه، ازداد دور الأكراد سخونة بضعف الدولتين المركزيتين، العراقية والسورية، وحصل ما يشبه المحاصصة في الحكم بين الطوائف والأعراق ولم يعد أي قرار من حكومة بغداد ملزما لإقليم كردستان العراق، وعمليا صار دولة داخل دولة ولكن دون انفصال رسمي، وفي سورية تحول الكرد إلى قوة المواجهة الأولى لتنظيم “داعش” من خلال قوات “سورية الديمقراطية” بدعم من قوى التحالف الدولي وخصوصًا أميركا التي أهملت الجيش الحر وغيره من فصائل لتدعم قوات سورية الديمقراطية (قسد).
نتيجة ضعف الحكومة المركزية في بغداد، تحول الأكراد عمليا إلى دولة مستقلة غير معلنة، ولم يعد أي اضطهاد للأكراد فهم يديرون إقليمهم بأنفسهم، والعكس صحيح، فقد يكون هناك اضطهاد للعرب والتركمان.
وكانت إسرائيل أول من رحب بدولة كردية، إذ أعلن نتنياهو عام 2014 عن دعمه لإقامة دولة كردية مستقلة وها هو يعلن من جديد دعمه لاستفتاء الانفصال رغم اعتراض العالم.
من حق الأكراد أن يكون لهم دولة مستقلة، عملا بمبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها، ولكن الأمر ليس بهذه البساطة، فهناك ارتباطات اقتصادية وجغرافية وقومية معقدة، وهناك واقع حالي مركّب نتيجة الحرب في العراق وسورية والوضع المتوتر في تركيا، هذا الاستفتاء وبرأي مفكرين أكراد كثيرين هو خطوة أنانية من قبل مسعود البارزاني لتثبيت زعامته الموروثة عن والده الملا مصطفى البارزاني، وبمثابة تهرب من الأزمات الاقتصادية التي يمر بها الإقليم نتيجة تفشي الفساد في حكمه الدكتاتوري، فولايته منتهية منذ سنين ولكنه مثل الحكام العرب الذين تعرفونهم، إضافة لقمع كل معارض للاستفتاء وتخوينه.
الاستفتاء يخلق توترًا إضافيا في البلدان الأربع: العراق، إيران، سورية وتركيا في الوقت الذي تحتاج هذه الدول وشعوبها للاستقرار بعدما أنهكتها الحروب، وليس إضافة توتر جديد يذكي نار الصراعات، من حق الكرد أن يحظوا بدولة مستقلة، ولكن استفتاءً كهذا يفترض أن يجرى في وضع استقرار العراق كله، ومنح الفرص لوجهات النظر المختلفة، وبعد انتخابات رئاسية وبرلمانية حرة جديدة في كردستان، ثم إجراء استفتاء سلمي وليس مفروضًا بتأييد ودعم دولي واسع وملزم لجميع الأطراف، وليس بتأييد وحيد مشبوه من قبل إسرائيل التي تحتل أراضي الغير وتحرم شعبًا آخر من تقرير مصيره وتحاصره وتعمل على تدميره.