المظاهرة من “إسقاط الواجب” إلى الكفاح المؤثّر
سهيل كيوان
لماذا تختلف مظاهرات حراك حيفا في فعاليتها عن غيرها من المظاهرات؟ لمسنا هذا من مظاهرات الاحتجاج على مخطط برافر، ولماذا كان وما يزال لها وزن كبير جدًا، إذ تحظى برد فعل عنيف من السلطة وتغطية إعلامية واسعة! علمًا أن أعداد المشاركين فيها لا يزيد عن أعداد المشاركين في مظاهراتنا الفولكلورية في شفاعمرو أو سخنين أو مجد الكروم أوالناصرة أو غيرها!
الفرق، هو أن المظاهرات التي ننظّمها بدعوة من لجنة المتابعة، أو بمبادرات محلية، باتت معروفة المسار والبداية والنهاية وحتى الكلمات التي ستُختتم بها.
نتظاهر داخل بلداتنا، يتصدر المظاهرة عدد من مُنتخبي الجمهور الحاليين أو السابقين أو الطامحين بالوصول إلى مركز ما، وفي الخلفية تسير مجموعة الهتّافين، التي تُردد هتافات قديمة قد يصل عمرها أكثر من نصف قرن، بعضها غير مفهوم إلا للقلائل مثل”يما مواسير الميّ تحت الأرض مدّوها”، ماذا يعني هذا في مظاهرة ضد نقل السفارة الأميركية إلى القدس مثلا؟.
تمضي المظاهرة نصف ساعة من أمام مسجد أو دوار وتنتهي في ساحة، بكلمة من مسؤول يُحيي الحضور، أما إذا كان عدد المتحدثين كبيرًا، فنرى المشاركين قد بدأوا بالانسحاب قبل سماع كل الكلمات التي باتت تكرّر نفسها. هذه اسمها مظاهرة إسقاط واجب.
هذا يعني أن الرسالة التي يفترض أن تنقلها المظاهرة لم تصل إلى حيث يجب أن تصل، فلا القوى اليهودية، ولا السلطة الإسرائيلية سمعتْ بها، ولا حتى الذين أُقيمت تضامنا معهم، وهي تشبه ذلك الذي يرسل الرسائل لنفسه، وبهذا نغلق على أنفسنا أبواب النضال ونتقوقع، وتصبح هذه المسيرات بلا طعمة، والدليل أن مسيرات يوم الأرض لم تعد تجلب إليها سوى المئات.
لهذا صار معظم الناس ينأون بأنفسهم ويصفونها “العادة يا بو شحادة”، خسارة على الوقت، وصار الكثيرون يسخرون منها في مواقع التواصل الاجتماعي.
ستقولون إن هؤلاء الذين يرفضون المشاركة، أيضا لو دعوناهم إلى مظاهرة أكثر صدامية مثل تلك التي جرت في حيفا مساء الجمعة، فإنهم لن يحضروا، وقد يكون هذا صحيحًا إلى حد بعيد، فالدافعية باتت منخفضة جدًا لأي مشاركة بفعاليات نضالية، فقد أسهمت سياسة مظاهرة (إسقاط الواجب)، والتجاذبات الحزبية لاحتكار النضال واستثماره حزبيًا لانزياح المظاهرة في وعي الناس عن هدفها، وباتت استعراضًا يمثل الكفاح وليس الكفاح بذاته. وهذا صار يسبب الاشمئزاز لدى الناس والنأي بالنفس.
الرابح من هذه المسيرات، هم الأشخاص الأفضل في التمثيل وإلقاء الشعارات الشعبوية على شاشات المواقع المحلية: مثل” شاء من شاء وأبى من أبى” وليشربوا من بحر غزة، و”عالقدس رايحين شهداء بالملايين”.
الفرق في مظاهرات الحراك الشبابي وحراك حيفا بالذات أنها غير معلّبة، فقيادته لا تطمح بعضوية كنيست ولا برئاسة بلدية، وليس لديهم أطماع حزبية وإن كان معظمهم قريبين من أحزاب وحركات أو أعضاء فيها، ولا يلتزم منظموها بما اعتادت عليه الشرطة من تظاهرة ترفيهية، وهذه قد تؤدي إلى إغلاق شوارع، وصاحب القرار والكلمة فيها هم هؤلاء الشبان وليس هذا المسؤول أو ذاك الذي يتفاهم مع ضابط الشرطة المسؤول الذي يمهله عشر دقائق لفضها.
ليس الهدف من المظاهرة إغلاق شارع، ولكن إغلاق الشارع في بلد مثل حيفا، وسيلة جيدة للتوصيل، وهو حق مشروع وغير عنيف، الشرطة تضطر لإغلاق الشارع، وحينئذ يسأل الناس عن السبب، وهنا تبدأ رسالة هذا النشاط السلمي بالوصول إلى حيث يجب أن يصل، فإغلاق شارع ليس عنفا، ولكن الشرطة تتلقى الأوامر بفض المتظاهرين بالقوة لمنع هذا الصوت من الوصول، إلى حيث يجب أن يصل.
حينئذ يُبث الخبر في النشرات العبرية والعربية، وقد يصل إلى محطات تلفزة أجنبية، والأهم، أن الرسالة تصل إلى الجهة التي تتضامن معها المظاهرة: “بأنكم لستم وحيدين”.
وهنا يتضح أن مفعول تحرّك بضع عشرات من الشبان، أو ربما مئة أو أكثر بقليل، يفوق بتأثيره مظاهرات الآلاف في الناصرة وسخنين ومجد الكروم التي لا تلفت انتباه أحد سوى المشاركين فيها.
لقد أدخلتْ قيادات الوسط العربي في وعي الناس بأن المسيرة التي تنتهي بخطاب، والصراخ من على منصة الكنيست هو عمل كفاحي كبير، وكذلك استجواب الوزير المعروف النتيجة، والتلفّظ أحيانا بكلمات خارج النص على منصة الكنيست، وهذا نضال مريح جدًا، فهو ينتهي بعد دقيقة بالعودة إلى المقعد، أو عدم الالتزام بالوقت والإخراج من القاعة على يد حرس الكنيست.
لا نقلل من شأن أحد، فمن يرى بالكنيست ميدانه النضالي الفعّال فله ذلك، ومن يرى بالمظاهرة التي تنتهي بشهادة حسن سلوك من الشرطة وخطاب وصورة، فله ذلك، ولكن ليس من حق أحد مهما ظن بأنه كبير أن يسخر وأن يحبط من يملكون دافعية مختلفة ومتقدمة عنه، وليس من حقه أن يشكّك بقيادات أخرى تنضم إلى الحراك الشبابي، ويتهمها بالهرب من الساحة، لأنها لم تُعتقل مثل الآخرين، والعمل بهذا بحسب أجندة السلطة على تقسيم جماهيرنا بين معتدلين ومتطرفين.
حكومة إسرائيل تبحث في حلول عنصرية إجرامية للقضية الفلسطينية، وهذا يشمل حلولا موجعة لفلسطينيي الداخل، وليس أمامنا سوى المواجهة، وتحريك المياه الراكدة، والعمل النضالي الجدّي الذي لا ينتظر شهادة حسن سلوك من شرطة نظام الأبرتهايد والعنصرية والفاشية.
حراك شباب حيفا نموذج، يمكن أن يحتذى به في كل قرية ومدينة، كي ننتقل بأنفسنا إلى درجة أعلى وأرقى في النضال، توازي في ردها الظلم والعنصرية التي نتعرض لها هنا وهناك وفي كل أماكن تواجد شعبنا، فالقادم أقسى وأمرّ، ويحتاج إلى تغيير في وسائل الاحتجاج وزيادة حدتها، لترتقي إلى مستوى الرد المناسب لنهج النكبة الذي يخططه ويمارسه الفاشيون ضدنا وضد أبناء شعبنا كله.