حامد اغبارية
يبذل إفرايم هرارا كل وسيلة قذرة للتحريض على الإسلام واختلاق الافتراءات عليه وسرد القصص والروايات الباطلة تارة والموضوعة تارة أخرى والضعيفة تارة ثالثة، والتي ينسبها إليه، والتي أثبتنا بطلان بعضها في المقالات السابقة. وتراه يحرّض الغرب في أوروبا من خلال تخويفه من سيطرة الإسلام عليه، “خاصة في فرنسا وفي إسبانيا”، قائلا إن مصير الغرب سيكون كمصير الذين أورد ذكرهم في مسلسل الأكاذيب في تقريره، وكأنه يقول للغرب: إياكم أن تسمحوا بانتشار الإسلام عندكم، بل علكم محاربته بكل قوة!
ولكي يقنع الغرب بذلك راح يتقيّأ كلاما عن ممارسات قاسية، مثل بتر أطراف وسمل عيون من يرفضون اعتناق الإسلام!!!! زاعما، قبّحه الله، أن هذا الفعل نال رضا النبي (صلى الله عليه وسلم).
ومن أجل “إثبات” هذه الفرية ينقل قصة يقول إنها رواية عن أحد رجال محمد (صلى الله عليه وسلم) يزعم أنها وردت في سيرة ابن إسحق: “أتيت إلى كهف مع قوسي وسهامي، وعندما كنت هناك دخل رجل أعور من بني ديل، يسوق غنما له. فاستلقى بجانبي ثم رفع صوته يقول: (ولست بمسلم ما دمتُ حيا ولا دانٍ لدين المسلمينا). فقلت لنفسي: ستعلم! وفور أن نام وبدأ في الشخير، نهضت وقتلته بأبشع طريقة يمكن أن يُقتل بها إنسان على الإطلاق. أدخلت طرف قوسي في عينه السليمة، وضغطت للداخل حتى خرج من خلف عنقه. ثم خرجت كحيوان مفترس…
ظهر رجلان من مكة أُرسلا للتجسس على الرسول… دعوتهما للاستسلام، وعندما رفضا قتلت أحدهما بسهم واستسلم الآخر. فقيدته وأحضرته إلى الرسول… الآن قيدت أصابع قدمي الأسير بوتر قوسي، وعندما رآه النبي ضحك حتى ظهرت أسنانه الخلفية. وسأل عن أخباري، وعندما أخبرته بما حدث، باركني”!!
أولا: هذه الرواية لم ترد عند ابن إسحق إطلاقا. وقد راجعنا سيرة ابن إسحق ولم نجدها. وهو ما يؤكده ابن هشام في سيرته، إذ يورد الحادثة برواية مختلفة في تفاصيلها وظروف وقوعها، يقول في بدايتها: (ومما لم يذكره ابن إسحق من بعوث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسراياه بعث عمرو بن أمية الضمري…). فهي سريّة عمرو الذي يشير إليه هرارا دون ذكر اسمه.
ثانيا: ينقل هرارا القصة عن ترجمة بالإنجليزية لسيرة ابن إسحق، وضعها المستشرق الإنجليزي الفريد غيوم. وواضح أن القصة نسبت إلى ابن إسحق، رغم عدم ورودها في النسخة الأصلية (العربية)، وبعض ما في قصّة هرارا ورد في السيرة الحلبية لابن برهان الدين الحلبي. وفيها: ويقال إن عمرا قتل رجلا آخر سمعه يقول:
ولست بمسلم ما دمت حيا ** ولست أدين دين المسلمينا
ولقي رجلين بعثتهما قريش إلى المدينة يتجسسان لهم الخبر، فقتل أحدهما وأسر الآخر ثم قدم رضي الله تعالى عنه المدينة، وجعل يخبر رسول الله ﷺ ورسول الله ﷺ يضحك. وحين تقرأ : (ويقال) فهذا يعني أنه ليس للرواية سند..
ثالثا: يورد ابن هشام القصّة في سيرته، وأذكرها هنا باختصار شديد: فقد كان أبو سفيان بن حرب (قبل إسلامه) قد قتل خبيب بن عدي وصلبه على جذع نخلة… ولما بلغ ذلك النبي أرسل عمروا بن أمية الضمري مع رجل من الأنصار لقتل أبي سفيان…. فدخلا مكة، لكنّ أمرهما كشف فهربا طالبيْن النجاة. وهناك روايات أخرى تقول إن النبي طلب قتل أبي سفيان لأنه أرسل أعرابيا لاغتيال النبي صلى الله عليه وسلم.
يقول عمرو: وقلت لصاحبي: النجاء النجاء، حتى تأتي بعيرك فتقعد عليه، فإني سأشغل عنك القوم….
قال: ….. ثم أويت إلى جبل، فأدخل كهفا، فبينًا أنا فيه إذ دخل علي شيخٌ من بني الديل أعور، في غنيمة له، فقال: من الرجل؟ فقلت: من بني بكر، فمن أنت؟ قال: من بني بكر، فقلت: مرحبا فاضطجع، ثم رفع عقيرته، فقال:
ولست بمسلم ما دمت حيا * ولا دانٍ لدين المسلمينا
فقلت في نفسي: ستعلم، فأمهلته حتى إذا نام أخذت قوسي، فجعلت سيتها في عينه الصحيحة، ثم تحاملت عليه حتى بلغت العظم، ثم خرجتُ النجاء، حتى جئت العرج، ثم سلكت ركوبة، حتى إذا هبطت النقيع، إذا رجلان من قريش من المشركين، كانت قريش بعثتهما عينًا إلى المدينة ينظران ويتحسسان، فقلت : استأسرا ، فأبيا ، فأرمي أحدهما بسهم فأقتله، واستأسر الآخر، فأوثقه رباطا، وقدمت به المدينة).
وتلاحظ معي أن النص الذي يورده هرارا ليس له من غرض سوى تشويه الإسلام والمسلمين، وتصويرهم كأنهم حيوانات، وأن الإنسانيّة لا تليق بهم. وما نزال نسمع هذا إلى يومنا هذا، تارة على لسان حاخاماتهم مثل عوفاديا يوسيف، وتارة على لسان سياسييهم وقياداتهم أمثال نتنياهو وغلانت وبن غفير سموطرتش والقائمة طويلة.
رابعا: كما أشرت فإن النص الذي يورده هرارا ليس عند ابن إسحق، بل هو مأخوذ من تاريخ الأمم والملوك للطبري. وقد ذكرتُ في أكثر من مقال وبحث أن الإمام الطبري نبّه في مقدمة كتابه أنه يذكر كل ما وصل إليه من روايات، سمينها وغثها، صحيحها وضعيفها وموضوعها، معتمدا على أهل العلم في معرفة الصحيح منها. وقد أشرت كذلك إلى أن كتاب الطبري فيه من الروايات التي ثبت بطلانها ومن الرواة الكذابين الكثير. وهذه الرواية التي يقتبسها هرارا بنصها أحدها.
وهبْ- افتراضا- أنها صحيحة بناء على نص الطبري، وهبْ أن عمروً بن أمية الضمري خرج من الغار كالوحش، كما يقول النصّ، وهبْ أنه قتل الرجل بأن أدخل قوسه في عينه حتى خرج من قفا رأسه، فكم حادثة كهذه يمكن لهرارا وجيش المستشرقين الفاسدين المفسدين أن يجدوا في تاريخ الإسلام الممتد على خمسة عشر قرنا؟ إنها نقطة في بحر مقارنة مع ما نراه عيانا (وليس فقط نقراه في كتب التاريخ) بالبث المباشر منذ قرابة تسعة أشهر… أما ما لم نره والذي ربما يفلت من قبضة التاريخ فهو أكثر فظاعة وأشد بشاعة وإجراما.. هكذا فقط يمكن أن تفهم أين يمكن أن تجد الأسس الوحشيّة….
خامسا: يسوق هرارا القصة ليبين أن المسلمين هم مجرد جماعة متوحشة متعطشة للدماء، بدليل ما فعله عمرو بن أمية، مع التنبيه إلى أن هرارا يذكر القصة منقوصة، لغرض في نفسه، ليخرجها عن سياقها، وليقول للقارئ الذي يجهل التاريخ ولا يدقق في التفاصيل: هؤلاء هم المسلمون وهذه هي أفعالهم وأخلاقهم وأنهم يقتلون من يرفض اعتناق الإسلام!! بينما لو أخذنا بالقصة بالتفاصيل التي يوردها هرارا فإننا سنجد أن عمروً كان في حالة فرار طلبا للنجاة وخوفا من أن يقع في أسر قريش بعد أن فشلت مهمته بقتل أبي سفيان، وليس أمامه إلا أن يواجه هذه الظروف بما يراه مناسبا، مجتهدا من تلقاء نفسه. وهو اجتهاد لا يعني أنه أصبح قاعدة أقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي القرآن والسنة المطهرة ما ينقض هذا كله، وفي التاريخ وأحداثه كذلك مليون دليل.
وهناك محققون كثيرون شككوا في هذه الرواية بالنص الذي عند الطبري، والذي يذكره هرارا في تقريره، ومنهم من ضعّفها لاختلاف طرقها واختلاط تفاصيلها وتاريخ وقوعها وأهداف السرية وغير ذلك. ومن هؤلاء على سبيل المثال لا الحصر كتاب “السرايا والبعوث النبوية حول المدينة ومكة” لصاحبه بريك بن محمد. (يتبع).