رؤساء وأمراء للبيع
الشيخ كمال خطيب
لم تكن هي فلتات لسان من الرئيس الأمريكي السابق ترامب لما قال إن الكتاب المقدس “الإنجيل” لم يفارقه منذ 15 عامًا، ولا الرئيس الذي سبقه جيمي كارتر كما قال: “إن إقامة إسرائيل في العام 1948 والعودة أخيرًا إلى أرض الميعاد التي أخرج منها اليهود منذ مئات السنين، إن إقامة الأمة الإسرائيلية هي تحقيق للنبوءة التوراتية والتنفيذ الجوهري لها”. ومثلهما قال الرئيس رونالد ريجان وهو الذي كان أكثر الرؤساء تدينًا وسيرًا على النصوص الدينية، وهو الذي قال:” ربما نكون نحن الجيل الذي سوف يرى هرمجدون” وهي المعركة الفاصلة التي يؤمن الإنجيليون الأصوليون أنها ستقع في أرض فلسطين بين الخير والشر بين النور والظلام، بين جنود المسيح وبين أعدائهم. ولم يختلف عن هؤلاء الرئيس الحالي بايدن الذي قال جملته الشهيرة: “لو لم تكن إسرائيل موجودة لكان يتوجب علينا إيجادها”. ولقد ذهب بالوضوح أكثر منه رئيس مجلس النواب الأمريكي مايك جونسون وهو من الإنجيليين الأصوليين الذين يعتبرون الحرب على غزة مقدمة لحرب آخر الزمان وظهور المخلّص، حيث قال: “إن الله كلّمه وأنه أعدّه لهذه المرحلة”.
إن هذه النزعة الدينية والهوية العقائدية التي تحرّك هؤلاء، فإن مثلها هي النزعة التي تحرّك الرئيس الروسي بوتين لما شاهدناه يأخذ بركات البطريرك الأكبر لعموم روسيا في كاتدرائية موسكو عندما قرر إرسال قواته إلى سوريا في العام 2015 لإنقاذ حليفه وعميله بشار الأسد، ولقد شوهد في مقاطع خلال رحلات استجمام وصيد وقد تدلى على صدره صليب كبير.
ومثل زعماء أمريكا وروسيا، بل أكثر منهم بكثير، فإنهم ساسة إسرائيل الذين شاهدناهم خلال الحرب التي ما تزال مستمرة ضد أهلنا وشعبنا في غزة وكيف استحضروا ليس فقط التاريخ القديم، بل إنهم استحضروا آيات التوراة لما ذكر نتنياهو ما ورد في سفر التشينة وهو يعلن الحرب رسميًا على غزة. “فمتى أراحك الرب إلٰهك من جميع أعدائك حولك في الأرض التي يعطيك الرب إلٰهك نصيبًا لكي تمتلكها تمحو ذكرى عماليق من تحت السماء لا تنسى”. وما ورد في سفر الخروج “فقال الرب لموسى: أكتب هذا تذكارًا في الكتاب وضعه في مسامع يشوع، فإني سوف أمحو ذكر عماليق من تحت السماء”.
إنه التحول الكبير واللافت أن كثيرين من القيادات العليا في الجيش والشرطة والمخابرات الإسرائيليين هم متدينون ويلبسون الكيباة ويحافظون على قدسية السبت وعلى الشعائر الدينية، لا بل إن كل ثكنة جيش أو مركز شرطة فإنه يضم كنيسًا للصلاة حتى أن كل فوج يتم تخريجه من الجيش والشرطة، فإن حفل التخريج لا يكون إلا في ساحه البراق بزعم أنها ساحة مبكاهم، لا بل إن كثيرًا من الفرق والكتائب العسكرية التي تقاتل في غزة في حربها الدموية، فإن لكل فرقة أو لواء حاخامًا عسكريًا يقوم بمهمة التعبئة الدينية عند الجنود ولتأكيد أنهم في حرب دينية ضد الأغيار.
إن من يستمد فهمه وتصوره وقراءته للأحداث من خلال كتاب الله تعالى وسنة رسوله ﷺ، فإنه سيتوصل وبلا عناء إلى أن طبيعة الصراع الذي يدور هو صراع يحمل نوازع عقائدية وحضارية دينية واضحة المعالم وليس الصراع محصورا على تحصيل نفوذ سياسي أو اقتصادي أو غير ذلك من الأسباب.
جيوش العروش
إن الوضع الطبيعي أن ينشأ أبناء المسلمين على هدي كتاب الله وسنة رسوله ﷺ بغض النظر عما ستكون وجهة كل شاب سواء من يذهب لدراسة الطب أو العلوم الإنسانية، وسواء أن يكون معلمًا أو فلاحًا أو صاحب أي مهنة أخرى، فإن الالتزام بشرع الله تعالى وفهم تعاليم الإسلام هو حجر الزاوية في شخصية كل مسلم فإن الإعداد العقائدي والفكري السليم يكون في المقدمة وهو الأساس.
مع الأسف إن ما يحصل في الدول والأنظمة العربية والإسلامية، فإنه العكس تمامًا ولقد شاهدنا وسمعنا تصريحات السيسي الانقلابي يوم أعلن أنه لن يسمح بأي مظهر من مظاهر التدين بين منتسبي الجيش والأجهزة الأمنية، وظاهر هذا الإعلان أنه من أجل التربية الوطنية بعيدًا عن الانتماء الديني لكل منتسب، لكن الحقيقة أن في هذا الإجراء ضمانًا ألّا يتسرّب للأجهزة الأمنية والعسكرية أي فرد أو شاب يحمل الفكر والهوية الإسلامية.
وفي الأردن قامت أجهزة الدولة بمراجعة كتب التعليم ومناهج التدريس ثم حذف وشطب أي آية من القرآن الكريم أو أي حديث شريف يتحدث عن أمور باتت تعتبر من المحرمات مثل الحديث عن الجهاد أو عن بني إسرائيل وهي في الأصل من صلب ديننا وتاريخنا، وهو ما يجري الآن في السعودية من حملة مراجعة جارفة لمناهج التدريس وإزالة وحذف الآيات القرآنية، وهي التي تساهم في مشروع سياسي هو مشروع التطبيع مع إسرائيل بكل ثمن وكل ذلك تحت شعار تجفيف منابع التطرف والإرهاب، وكأن آيات القرآن الكريم هي من أسباب الغلو والتطرف وهي بلا شك ليست كذلك.
أليس من العار أن تعظّم التوراة والإنجيل، بينما يتطاول على القرآن؟ أليس من العار أن يعظموا حرمة السبت والأحد، بينما في السعودية الآن تمهيد إعلامي ضخم لجعل العطلة الرسمية في يومي السبت والأحد وليس الجمعة كما اعتادت الأمة في تاريخها؟ أليس من العار أن يفخروا بأسماء أنبيائهم بينما وعلى شاشات تلفزيونات عربية رسمية يتم الاستهزاء بالسنة والطعن بزوجات رسول الله ﷺ؟ أليس من العار أن يعظّموا هم هيكلًا مزعومًا بينما تعقد الندوات في الإمارات وفي مصر فيها يتم مناقشة هل المسجد الأقصى هو الذي في القدس في فلسطين أم أنه هناك قريب من الطائف، يناقشون ذلك للتشكيك بالرواية الإسلامية وهم يجلسون حول موائد عليها زجاجات الخمر ومن بين الجالسين يوسف زيدان وإبراهيم عيسى وكلاهما من أشد أعداء الإسلام.
إنهم العرب لم يدخلوا التاريخ بأبي جهل وأبي لهب، وإنما دخلوا التاريخ بأبي بكر وعمر، ولم يدخلوا التاريخ بالمعلقات السبع وإنما دخلوه بالقرآن. ولم يدخلوا التاريخ باللات والعزة وإنما دخلوا التاريخ بلا إله إلا الله محمد رسول الله. وإن من دخلوا التاريخ بالإسلام فإنهم سيخرجون من التاريخ إن هم تركوه ولن يستطيعوا العودة إلا به كما قال عمر رضي الله عنه: “كنا معشر العرب أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام ومهما ابتغينا العزة بغير الإسلام أذلّنا الله”.
الله للدين كم ظلمًا أهين وكم ظنوه نقصًا وفي التفكير نقصان
سل صفحة الأمس عمّن أيدوه أما كانت لهم في نواحي الأرض تيجان
دين الحضارة والأخلاق أسعدهم فمذ أهانوه قد ذلّوا وقد هانوا
عدل من الله تأييدًا لسنته حظ المقصّر إقصاء وحرمان
يا قوم لوذوا بحبل الله واعتصموا إن الدواء لداء العرب قرآن
الرجوع إلى الله قوة وغلبة
إنه التاريخ يحفل بسيرة لأبطال وعظماء في هذه الأمة عرفوا أن التمسك بتعاليم الإسلام والقرب من الله تعالى هو الضمان للرقي والحضارة وهو الوسيلة للغلبة وازالة العقبات فها هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقد تأخر جيش عمرو بن العاص الذي أرسله لفتح مصر في أداء مهمته فكتب إليه عمر رضي الله عنه: “خرجت ومعك أربعة آلاف، وأمددتك بأربعة آلاف على رأس كل ألف رجل بألف -يقصد الزبير بن عوام والمقداد بن عمرو وعبادة بن الصامت ومسلم بن المخلد- فيكون معك إثنا عشر ألفًا ولا يغلب إثنا عشر ألفًا من قلة، إلا أن يكون هؤلاء قد غيّرهم ما غيّرهم. يا عمرو إذا جاءك كتابي فأجمع الناس في كل يوم جمعة في وقت الزوال وقت ساعة الإجابة وادعوا الله واستغفروه وتوبوا إليه ينصركم”.
ومثل عمر بن الخطاب مع جنوده فإنه صلاح الدين الأيوبي مع جنوده خلال معاركه عامة وفي حطين خاصة، وكيف كان حريصًا على الدعاء والتذلل لله سبحانه ويربي جنوده على ذلك، وكيف كان تأثير الدين والالتزام به على سير المعارك من منظور أحد قادة الصليبيين ممن وقع أسيرًا بيد المسلمين حيث يقول: “إن لصلاح الدين مع الله سرًا فإنه ما ظفر علينا بكثرة جنوده وعساكره وإنما ظفر علينا بالدعاء وصلاة الليل، كأنه كان يصلي في الليل ويرفع يديه إلى السماء ويدعو الله فيستجيب له”.
سهام الليل صائبة المرامي إذا وترت بأوتار الخشوع
يصوّبها إلى المرمى رجال يطيلون السجود مع الركوع
بألسنة تهمهم من دعاء وأجفان تفيض من الدموع
زعماء سفهاء وجبناء
كنا نقرأ عما يفعله زبانية جمال عبد الناصر في السجون ضد أبناء المشروع الإسلامي، وما كان يفعله زبانية حافظ الأسد وابنه بشار والحبيب بورقيبة وزين العابدين في تونس، فإننا كنا نظن أن هذه حالات استثنائية في واقع الأمة، وإذا بسجون سلطة أبو مازن في الضفة الغربية أشد ظلمًا وفسادًا وعداء لأبناء المشروع الإسلامي.
أن يفعلوا كل هذا وهم ما يزالون تحت بساطير الاحتلال الإسرائيلي ولكن يبدو أن التدريب الذي تلقوه في مصر وتونس والإمارات لم يكن تدريبًا مهنيًا وإنما كان تدريبًا عقائديًا في كراهية الإسلام والعداء له، وإلا فكيف لنا أن نتصور أن يصبح سجن جنيد في نابلس مقرونًا بسجن صدنايا في سوريا أو السجن الحربي في مصر، بل إنه يتحول إلى مسلخ بشري وفق تصنيف “المرصد الدولي لتوثيق انتهاكات حقوق الإنسان” وإنه الأسوء في الشرق الأوسط، حتى أن أحد من كان اعتقل فيه وهو طالب جامعي إسلامي فإنه ومع شدة الجلد والشبح والضرب والتهديد بالاغتصاب فقد سمع المحقق الفلسطيني ذلك المعتقل وهو يقول: “منشان الله منشان محمد بكفي بكفي” فتوقف ذلك المحقق وأتى بورقة وقال له أكتب الله محمد، فكتب الشاب المعتقل، وإذا بالمحقق يضع الورقة في جارور المكتب ويغلق بالمفتاح قائلًا: الله ومحمد وضعناهم في الجارور وسكرنا عليهم فلن ينفعوك ولن يخرجوا لمساعدتك “.
وإذا كان هذا المحقق قد أغلق الجارور على الله فمنعه من المساعدة حسب زعمه فإنه قد قال للشاب إياه بعد أن جاءه بصورة لأبي مازن وقال له: قبّلها توسل لأبي مازن يساعدك ويطلق سراحك. هكذا صار مقام أبو مازن عند هؤلاء بطل التنسيق الأمني ومهندس أوسلو. أبو مازن يا شايف الزول يا خايب الرجا.
إنها صورة وإنه مشهد من مشاهد زمن الرويبضات والسفهاء من الزعماء الذين يحكمون شعوبنا وأمتنا في هذا الزمن الأصفر و الأغبر والذي أنا على يقين أننا نوشك أن نطوي فصوله السوداء وإلى الأبد بإذن الله تعالى.
ومثلما وقف سلطان العلماء العز بن عبد السلام وأصرّ على خلع الأمراء الفاسدين الذين تسلّطوا يومها على الحكم في مصر بغير حق بل إنه أعلن عنهم “أمراء للبيع”، فيقينًا أنه سيأتي اليوم القريب الذي فيه سيُخلع الحكام الفاسدون الخائنون ولن يباعوا لأنهم أرخص من أي شيء وإنما سيُلقى بهم في مزابل التاريخ مقدمة لمحكمة قاضي السماء يوم القيامة.
فكن من الأوائل
ها نحن في الساعات الأولى من اليوم الأول من الأيام العشر من ذي الحجة. إنها الأيام المعلومات {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ} آية 28 سورة الحج. وإنها الأيام المعدودات {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ} آية 203 سورة البقرة. وإنها الليالي العشر التي أقسم الله بها {وَالْفَجْرِ*وَلَيَالٍ عَشْرٍ} اية 1-2 سورة الفجر. وإنها الأيام التي قال عنها النبي ﷺ: “ما من أيام العمل الصالح أحب إلى الله تعالى من هذه الأيام يعني العشر. قالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله. قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء”. وإنها الأيام التي حبب إلينا النبي ﷺ فيها ذكر الله فأكثروا فيهن من التهليل والتحميد والتكبير.
ولما كانت العشر من ذي الحجة هي خاتمة أشهر الحج التي هي شوال وذو القعدة والعشر الأوائل من ذي الحجة، ولقد قال العلماء: “إذا كان الله سبحانه قد وضع في نفوس المؤمنين حنينًا إلى مشاهدة بيته الحرام وليس كل واحد قادر على مشاهدته في كل عام، فلقد جعل الله العشر من ذي الحجة موسمًا مشتركًا للحجيج وغير الحجيج، فمن عجز عن الحج في كل عام قدر على الطاعات في العشر من ذي الحجة، ففي العشر الأوائل اجتهد وشمّر وكن من الأوائل.
يا سائرين إلى البيت العتيق لقد سرتم جسومًا وسرنا نحن أرواحا
إن أقمنا على عذر وقد رحلوا ومن أقام على عذر كمن راحا
إنها الأيام العشر الأوائل من ذي الحجة، أيام الرجاء والدعاء ورفع اليدين إلى السماء حيث الأمة في كرب وبلاء، وفي محنة لا يعين عليها إلا الله.
فإذا كانت المحنة هي بفعل الأعداء فإنها كذلك بفعل خيانة الزعماء، الأمر الذي يجعلنا نلحّ على الله تعالى بأن يهيئ للأمة قائدًا ربانيًا يملأ الأرض قسطًا وعدلًا بعد إذ ملئت ظلمًا وجورًا.
اللهم قد أصبحت أهواؤنا شيعًا فامنن علينا براع أنت ترضاه
راع يعيد إلى الإسلام سيرته يرعى بنيه وعين الله ترعاه
وإننا واثقون ومطمئنون أننا بين يدي هذه المرحلة بإذن الله تعالى، وإن غدًا لناظره قريب.
نحن إلى الفرج أقرب فأبشروا.
رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة.
والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.