معركة الوعي (202) مناقشة افتراءات إفرايم هرارا الواردة في تقريره: “الأسس الوحشية للإسلام” (4)
حامد اغبارية
يورد هرارا في تقريره تفاصيل حادثة وقعدت في غرناطة عام 1066، تعرف بما يسمى “مذبحة يهود غرناطة”، أيام حكم باديس بن حبوس، ثالث ملوك الطوائف في غرناطة.
يقتبس هرارا الفقرة التالية من كتاب “رسالة إلى اليهود” للشيخ المغربي عبد الكريم المغيلي، على اعتبار أنها وردت على لسان عالم صوفي (لم يذكر اسمه) يدعو فيها إلى قتل اليهود لأنهم نقضوا عهد الذمة وامتنعوا عن دفع الجزية:
جاء في الاقتباس: “إن قتال اليهود وقتلهم هو فريضة إلهيّة. وسيُرفع السيفُ عن رقابهم فقط عندما يدفعون الجزية وهم صاغرون…. وأؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن دم اليهود مهدورٌ هم وأولادهم ونساؤهم، والذي نفسي بيده إن قتل يهودي واحد أعظم من قتال عبدة الأوثان، اقتلوهم حيث وجدتموهم واسلبوا أملاكهم واسبوا أبناءهم ونساءهم” (إلى هنا الاقتباس من هرارا بترجمة حرة عن العبرية).
وحتى أكون دقيقًا ونمن باب الأمانة من جهة البحث العلمي، فإنني لم أتمكن من الوصول إلى كتاب المغيلي المشار إليه، ولذلك لا يمكنني الحكم على صحّة الاقتباس، خاصة وأن اسم “العالم الصوفي الذي حرض على قتل اليهود” (كما يصفه هرارا) غير مذكور فيه. وأظنه يقصد أبا إسحاق الإلبيري، الذي طالما نبه الناس وحذرهم من تسلط ابن نغريلة وسعيه إلى السيطرة على المملكة. ولكنَّ بطلان أسباب المذبحة، كما يوردها هرارا، تجدهُ في هشاشة النصوص واجتزاء جانب من الحقيقة وإخفاء الحقيقة التاريخية التي تملأ بطون الكتب.
وقبل الخوض في التفاصيل والخلفيات أورد هنا ما قاله الكاتب أندرياس كيلب في كتابه “ممالك الإيمان – تاريخ جديد للعهد الإسلامي في الأندلس”: إذ يقول: (لم تكن مذبحة يهود غرناطة في عام 1066 مذبحةً عرقية، بل كانت ذروة صراع على السلطة بين أتباع الوزير اليهودي يوسف بن نغريلة وأسرة البربر الزيريين). بل إنّ مؤرخين كثيرين وصفوا تلك الواقعة بأنها كانت ثورة ضد التسلط والظلم.
فالمذبحة -كما وردت تفاصيلها- لم تكن على خلفية عرقية ولا دينية، ولم تكن ضد اليهود لكونهم يهودا، كما يزعم هرارا، وإنما للدسائس والمؤامرات التي حاكها الوزير يوسف بن نغريلة اليهودي المقرب من ملك غرناطة باديس بن حبوس، والتي سعى من خلالها إلى زعزعة الحكم الإسلامي في الأندلس في فترة ملوك الطوائف التي شهدت صراعات وحروبًا بين الممالك الأندلسية قُتل فيها من المسلمين أضعاف أضعاف ما قُتل من اليهود في تلك المذبحة!!
وإليكم تفاصيل ما حدث في غرناطة عام 1066 ميلادية:
كانت مملكة غرناطة تحت حكم باديس بن حبوس البربري، وكان حاكما قبليّ التوجّه، فاسدا، لا يلتفت إلى مصالح الناس. وقد قرّب إليه يوسف بن نغريلة الذي بذل كل ما في وسعه لينال ثقة باديس، حتى أصبح وزيره الأول (أو الحاجب الأكبر) والمتصرف الحقيقي في شؤون الحكم وإدارة شؤون المملكة. وبعد وفاة يوسف، الذي ذكرت بعض المصادر أن اسمه إسماعيل، وليس يوسف حلّ مكانه ابنه يوسف بن نغريلة، الذي وزّع الوظائف الحساسة على اليهود واستأثر بكل شيء، الأمر الذي أثار غضب المسلمين. وقد تنبّه بلقين بن باديس، الابن البكر لباديس إلى هذه المسألة وبدأ يسعى إلى استبعاد ابن نغريلة من قصر والده، لما رآه من بسط سيطرته على كل شيء، غير أن جواسيس ابن نغريلة نقلوا إليه ما يسعى بلقين إليه، فدعاه إلى مجلس شراب ودس له السمّ في شرابه فمات بعد يومين. وقد استطاع ابن نغريلة هذا إقناع باديس بأن بعض الجواري والخدم هم الذين دسوا السمّ لابنه بلقين، الذي كان وليا للعهد. وقد اطمأن باديس إليه، بل وأوكل إليه شؤون الحكم أكثر من ذي قبل. ثم جاءت اللحظة التي لا بد أن ينكشف فيها كل شيء. فقد كان أحد خُدام باديس المقربين، ويدعى “الناية” قد اطّلع على خبايا مؤامرات ابن نغريلة، وبدأ ينقل أخباره لباديس حتى اقتنع باديس بوجود مؤامرة، فغيَّر معاملته لابن نغريلة، خاصة وأنه بدأ يشعر بالسخط الشعبي تجاه سيطرة ابن نغريلة والموظفين اليهود على شؤون الحكم، وهي ردة فعل طبيعية في مملكة إسلامية.
عندئذ قرر ابن نغريلة التحرك. فاتصل مع صاحب إمارة ألمرية، واسمه أبو يحيى بن صمادح، واقنعه بالاستيلاء على غرناطة، واتفق معه على ليلة الهجوم، على أن يكون ابن نغريلة مستعدا مع جنوده من الداخل ليساعده في السيطرة على غرناطة. لكنْ قدَّر الله أن ابن نغريلة عقد مجلس شراب لمعاونيه استعدادا لليلة الهجوم، غير أن الخمرة تسببت في وقوع مشادة بين أحد الحاضرين في مجلس الشراب وبين أحد خدام بن نغريلة، فخرج الخادم إلى الشارع وبدأ يصيح بالناس أن ابن نغريلة يحيك مؤامرة مع ابن صمادح حاكم ألمرية. وعندها هاج المسلمون وتوجهوا إلى دار ابن نغريلة يتقدمهم شيوخ البربر، فهرب ابن نغريلة إلى قصر باديس، لكن العامة وصلوا إليه وقتلوه وصلبوه أمام الناس. ثم خرجت الأمور عن السيطرة أمام غضب الناس الذين هجموا على بيوت اليهود فوقعت المذبحة التي يتحدث عنها هرارًا على أنها من طبيعة المسلمين، وأنها في صميم الإسلام!! ذلك الدّين الذي جاء رحمة للعالمين، ولكن جاء أيضا لبسط العدل ورفع الظلم عن العباد، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ولاحظ معي أن هذه الحادثة اشبه ما تكون بما حدث مع بني قريظة كما ذكرناها في مقال سابق. ومن المهم أن نذكر أن تلك الحادثة وقعت في وقت كانت الخلافة الأمويّة في الأندلس قد انهارت، وباتت دولة الإسلام في الأندلس في أوج الصراعات بين ملوك الطوائف، بينما يؤكد مؤرخون قدامى ومعاصرون من اليهود، (ومن غيرهم) أن يهود الأندلس عاشوا فترتهم الذهبيّة في ظل الدولة الإسلامية. وهذه مسألة لا ينكرها إلا مغرض أو مكابر. فقد عاش اليهود في أمان وحريّة دينية تامّة وحقيقيّة، دون أن تتدخل الدولة الإسلامية في شؤونهم الداخلية، إلا بما يضمن الأمن العام في البلاد، شأنهم كغيرهم، فالأمر لم يكن مقصورا عليهم وحدهم، بل شمل المسلمين والنصارى على حد سواء.
ويروي ابن بسام الشنتريني في كتابه “الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة/ج1) أن يوسف بن نغريلة ذاك هاجم شريعة المسلمين في عقر دارهم وطعن في الإسلام والقرآن، في كتاب ردّ فيه على ابن حزم الأندلسي. وقد أثار هذا غضب ابن حزم وغضب عموم المسلمين الذين رفعوه إلى أعلى منصب في قصر الحكم، علما أنه كان اليهودي الوحيد في الأندلس كلها الذي وصل إلى ذلك المنصب. وقد وجّه ابن حزم نقده وغضبه نحو باديس داعيا الله تعالى أن يسلّط عليه كما سلَّط ابن نغريلة على رقاب العباد وعاث في قصر الحكم والبلاد فسادا. وقد أعرض باديس وبطانته عن تحذيرات ابن حزم وتحذيرات شيوخ البربر، لأن همه لم يكن إقامة الدين بل جمع الأموال وتسيير شؤون الحكم بأية طريقة تضمن له البقاء فوق العرش، ولم يكن أفضل من ابن نغريلة في جمع الأموال وتكديسها في خزينة باديس، من خلال إثقال كاهل الناس بالضرائب. حتى أن قسما من اليهود اشتكوْا من ظالم ابن نغريلة (يمكن مراجعة كتاب “تاريخ اليهود في الأندلس 1030-1141، للدكتور محمد الأمين ولد آن”).
ملاحظة: إسماعيل ابن نغريلة، معروف عند اليهود باسم “شموئيل هنجيد”. وهم يعتبرونه من أبرز الشخصيات التاريخية اليهودية في الأندلس، وكان إلى جانب خوضه في شؤون السياسة من حاخاماتهم، وشاعرا معروفا، برز أكثر ما يكون في مجال وصف الخمرة ومجالسها والطبيعة والنساء…(يتبع).