“عتيدنا” وأخواتها
الشيخ رائد صلاح
كان من أوائل من لفت الانتباه إلى خطورة تلقي دعم مالي من صناديق غربية أوربية أو أمريكية أو صناديق دعم صهيونية هو الأخ المرحوم عبد الحكيم مفيد، حيث كتب في التسعينيات سلسلة مقالات حذَّر فيها من تلقي هذا الدعم، وأكد أنَّ أية جمعية قامت في الداخل الفلسطيني ورضيت لنفسها أن تتلقى دعما ماليا من هذه الصناديق فقد تتحول مع الأيام إلى رهينة للصندوق الداعم لها ماليا، وستتحول- من حيث تقصد أو لا تقصد- إلى أداة طيعة لتنفيذ أجندات هذا الصندوق الداعم لها ماليا، مهما كانت أهداف هذه الجمعية المدعومة في ظاهر الأمر نبيلة مغرية.
فنحن في عالم لا تعرف صناديقه الداعمة تقديم الدعم مجانا بلا مقابل، ولا تتحلى بمروءة تدفعها لتقديم الدعم لأجل الدعم بنية خالصة مخلصة من أجل عيون الإنسانية أو أخوّة الشعوب والرحمة بالضعفاء، بل إن لكل صندوق من صناديق الدعم أجندات يسعى إلى تحقيقها بواسطة هذه الجمعيات المدعومة التي قامت في الداخل الفلسطيني، وقد تكون هذه الأجندات سياسية أو اجتماعية أو سلوكية أو قد تكون كل ذلك، وهذا يعني أنَّ هذه الصناديق الداعمة تدعم بيد وتفرض بيدها الأخرى أجنداتها على الجمعية التي تدعمها، حتى تتحول هذه الجمعية المدعومة- مع الأيام- إلى موظف أمين للصندوق الذي يدعمها، ولا تعصي له أمرا، وتأتمر بأمره، وتنتهي بنهيه، وتنفذ كل أوامره بحذافيرها، وإلا لو حادت عن هذا الخط المرسوم لها، فسيجفف منابعها المالية، وسيتفرق العاملون أو العاملات فيها شذر مذر، وستختفي في لحظة وانتباهتها كأن لم تكن، وكأن لم تغن بالأمس مفاخرة بميزانيتها وعدد العاملين فيها، حيث قد تصل ميزانية بعض هذه الجمعيات المدعومة إلى رقم يفوق ميزانية بعض السلطات المحلية العربية في الداخل الفلسطيني، وقد يصل عدد العاملين والعاملات في بعض هذه الجمعيات المدعومة إلى رقم يفوق عدد العاملين والعملات في هذا البعض من السلطات المحلية العربية!!
لماذا كل هذا الكرم الحاتمي الذي تتحلى به هذه الصناديق الداعمة؟! خاصة الصناديق الداعمة الأمريكية الصهيونية؟! ولماذا هذا السخاء الذي لا نظير له والذي دفعها أن تقدم مئات ملايين الدولارات إلى الجمعيات المدعومة التي قامت في الداخل الفلسطيني فقط؟!
ولو تمكنا- فرضا- أن نحصي كل ما تقدمه إلى سائر الجمعيات المدعومة على الصعيد الفلسطيني والعربي والإسلامي لوجدنا أنَّها تقدّم مليارات الدولارات إلى هذه الجمعيات المدعومة كل عام!! لماذا كل ذلك؟!
حتى نصل الى جواب هذا السؤال المصيري الهام يجب أن يستوقفنا قول الحكيم: (إذا كانت اللقمة من الفاس كانت الفكرة من الراس)، والفاس هو المعول الذي نحرث به الأرض ونعدها للزراعة، وهو المعول الذي نقيم به أحواضا ترابية حول أشجار الحمضيات التي كنّا نزرعها ذات يوم، وهو المعول الذي كنا نشق به قنوات الماء الترابية لنسقي بواسطتها أحواض الملوخية والبندورة والخيار والباذنجان والفكوس التي كنا نزرعها. ودلالة هذا المثل الحكيم تعني أنَّ اللقمة التي نأكلها إذا كانت من كدنا وتعبنا وعرق جبيننا فإن الفكرة التي نحملها ستكون أصيلة من رؤوسنا وغير مستوردة، وستكون أجنداتنا أصيلة تخدمنا وتخدم مجتمعنا وتدور في فلك ثوابتنا الإسلامية العروبية الفلسطينية، والعكس هو الصحيح مع شديد الأسف. بمعنى أنَّ اللقمة التي نأكلها إذا كانت صدقة يمنُّ بها علينا غيرنا، فستكون الفكرة التي نحملها دخيلة علينا، وهي من إنتاج عقل هذا المتصدق وليس من إنتاج عقولنا، وستكون أجندتنا دخيلة تدور في فلك هذا المتصدّق وليس في فلك ثوابتنا الإسلامية العروبية الفلسطينية.
ومع بساطة هذا القول الحكيم: (إذا كانت اللقمة من الفاس كانت الفكرة من الراس)، فهو ينطبق على الكثير من الجمعيات المدعومة والتي قامت في الداخل الفلسطيني، ولأنها جمعيات مدعومة فإنَّ فكرتها ليست من رأسها، بل من رأس الصناديق الداعمة!!، وخاصة الصناديق الداعمة الأمريكية الصهيونية، وهذا يعني تلقائيا أن أجندة هذه الجمعيات المدعومة ليست من رأسها كذلك، بل من رأس الصناديق الداعمة!! وهناك الشواهد الكثيرة التي لا تحصى، والتي قد تقال أو لا تقال باتت تؤكد أنَّ حال الكثير من هذه الجمعيات المدعومة بات محكوما بمقولة: (من يأكل من خبز السلطان يضرب بسيفه)، فهي هذه الجمعيات التي باتت تجاهر بحمل سيف هذه الصناديق الداعمة، وباتت تحارب به نيابة عن هذه الصناديق الداعمة!!
وإلا فهل صناديق الدعم الأمريكية الصهيونية يقلقها كثيرا نسبة تمثيل مجتمعنا في الداخل الفلسطيني في الكنيست؟! ويقلقها قلقا سرق منها نومها عدد مقاعد النواب العرب في الكنيست، الأمر الذي دفعها إلى دفع ملايين الدولارات التي لا يعرف رقمها الأخير إلا هذه الصناديق الداعمة والحلقات الضيقة جدا التي تعاطت معها ونعمت بدعمها بهدف رفع نسبة تصويت مجتمعنا في الداخل الفلسطيني في الكنيست، وبهدف رفع عدد مقاعد النواب العرب في الكنيست، وبهدف الانزلاق إلى لعبة مقايضة الثوابت بالمصالح، وبهدف ضبط مسيرة مجتمعنا في الداخل الفلسطيني للاختيار بين التحالف مع اليمين- الوسط الصهيوني أو مع الوسط- اليمين الصهيوني في الكنيست؟! هذا نموذج على الأجندات السياسية التي تحاول أن تشيعها فينا الصناديق الداعمة بواسطة الجمعيات المدعومة التي قامت في الداخل الفلسطيني.
وأمَّا عن الأجندات الاجتماعية والسلوكية فحدث ولا حرج!! فما معنى أن تتفاخر علينا بعض هذه الجمعيات المدعومة أنها تحارب التحرش الجنسي وتدعو في نفس الوقت الى الإباحية الجنسية التي تمثل أجندة الصناديق الداعمة؟! وما معنى أن تتباهى بعض هذه الجمعيات أنها تكافح كفاحا مستميتا من أجل أن تأخذ المرأة حقها في الميراث وتدعو في نفس الوقت إلى تقبل الشذوذ الجنسي؟! ويبقى السؤال الكبير: ما هو المستور من أجندات هذه الصناديق الداعمة؟! هل تسعى هذه الصناديق الداعمة عبر الكثير من الجمعيات المدعومة إلى خصخصة مجتمعنا وتحويله إلى دكاكين دعم استهلاكية؟! أم تسعى هذه الصناديق الداعمة إلى تدمير قيمنا وفرض قطيعة بيننا وبين ثوابتنا الإسلامية العروبية الفلسطينية؟! أم تسعى إلى تحييد كل أحزابنا السياسية والإبقاء على مجتمعنا رهينة لهذه الصناديق الداعمة؟! أم تسعى إلى تفريغ بطيء للجنة المتابعة العليا من محتواها وصناعة لجنة متابعة بديلة في الظل مكونة من كذا جمعية من هذه الجمعيات المدعومة؟ّ! أم تسعى إلى تحويل مجتمعنا إلى مجتمع اتكالي يتقن فن التبذير والربح السريع ولا يتقن فن الإنتاج والإبداع؟! وتزداد هذه الطامة الكبرى عندما نعلم أنَّ خلفيات الكثير من هذه الجمعيات هي خلفية حزبية!! أي تمت بصلة تنظيمية إلى بعض الأحزاب والحركات في الداخل الفلسطيني!! وهذا يعني أنَّ القضية ليست قضية (عتيدنا) فقط، بل قضية (عتيدنا) وأخواتها.