أم محمد برغال: الأم المدرسة
الشيخ رائد صلاح
كأنّ ذكاءها وفطنتها وهمّتها وصفاءها وجرأتها وُلدت معها في اللّحظات التي خرجت فيها إلى الدنيا، وكأن كل هذه الحزمة من الفضائل نمت في داخلها وسرت في قلبها وعقلها وجسدها يوم أن كانت رضيعًا ثمَّ يوم أن أصبحت فتاة ثم لمّا أصبحت أُمّا ثمّ لمّا بنت أسرة عصامية من صفوة أبناء وبنات. ولذلك يوم أن بدأت في مرحلة دراستها الابتدائية أنهت الصف الأول ثمّ الصف الثاني، فقررت إدارة المدرسة ترفيعها إلى الصف الرابع مباشرة، ولكن زميلتها في الدراسة التي كانت تصاحبها كل يوم من بيتها إلى المدرسة ومن المدرسة إلى بيتها توقفت عن الدراسة، فقررت أسرتها عدم إرسالها لوحدها إلى المدرسة، وهكذا توقف مشوارها الدراسي!!
أتدرون من هي؟! إنها المرحومة أم محمد برغال، وهكذا ضاعت فرصة طلبها للعلم من المهد الى اللحد، ولو واصلت هذا المشوار للمع اسمها في سماء أهل النبوغ والتخصص في الدراسات الإنسانية، ولكانت مرجعًا يستضاء بها في ليلنا الطويل البهيم. ومع ذلك راكمت ثقافتها ووعيها مع الأيام بعيدًا عن مقاعد الدراسة حتى كوّنت لنفسها تلك الشخصية الشامخة الصامدة كما هي الجبال في شموخها وصمودها. فكانت الأم المربية التي أحالت بيتها إلى مدرسة أتقنت فيها تربية أبنائها وبناتها على حب الأرض والبيت والمقدسات، وعلى التمسك بجذور الماضي والتشبث بساق الحاضر والامتداد نحو المستقبل، وزوَّدتهم بفهم سليم وسلوك قويم يرفض الظلم ويأبى الانكسار ويتعصّب للكرامة ويلوذ بالهوية والانتماء والثوابت، وصدق من قال: الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعبًا طيب الأعراق.
ورغم أن المرحومة أم محمد برغال ذاقت لوعة نكبة فلسطين واختزنت في وجدانها مشاهد مآسي الذين تركوا بيوتهم مكرهين وهجروا بياراتهم مرغمين، ثمَّ ساروا حفاة على أقدامهم إلى الشتات ونحو المستقبل المجهول وقد وضعوا ما خفَّ من متاعهم فوق رؤوسهم، وحملوا أطفالهم بأيديهم يتضورون جوعًا ويضجون بكاء، مع كل هذه اللوعة التي جرت في أحاسيسها كجري الدم في العروق إلا أنها نجحت أن تقف على قدميها مرة ثانية، وأن تتخطى عتبة النكبة سالكة طريقها بصبر وتفاؤل إلى الأمام ولسان حالها يقول: فيا داري إذا ضاقت ديار، ويا صحبي إذا قلّ الصحاب. وكأني بها قد عقدت توأمة مع البلاء يوم أن بدأت جدران بيتها تضج بضحكات أبنائها وبناتها، فما أن شبَّ محمد وترفع من مرحلة نعومة الأظافر إلى مرحلة الكدح في مناكب الأرض، حتى وجد نفسه أسيرًا سياسيًا خلف القضبان، فصبرت أم محمد برغال على ذاك البلاء، وأيقنت أنه ما بعد الصبر إلا الفرج وما بعد الليل إلا الفجر وما بعد الأسر إلا الحرية، ويوم أن راحت تجاهد نفسها وتلزمها بالصمود في ذاك البلاء، وقع عليها ما ضاعف عليها بلاءها، وأطال حزنها، وجرّعها كأسًا بعد كأس من الهم والغم والحزن، فها هو ابنها مخلص قد سار في درب أخيه محمد وتتبع خطاه شبرًا بشبر وذراعًا بذراع، وها هو بات أسيرًا سياسيًا يقضي حياته وفق عقرب ساعة السجن والسّجان، فماذا تفعل أم محمد برغال وقد بات البلاء تلو البلاء يطرق بيتها، وأنى لها أن تتواصل مع فلذات كبدها الأسرى محمد ومخلص، وكل منهما أسير يتنقل من سجن إلى سجن وما أكثرها، وما أكثر مسمياتها كيف لا وهي التي تمتد عرضًا وطولًا ما بين شطة شمالًا ونفحة جنوبًا، لا سيما وقد مضى عليها من عمرها خمسة وستون عامًا، فماذا تفعل أم محمد برغال؟! هل تستسلم؟! هل تجلس في بيتها؟! هل تنكسر؟! هل تنطوي على نفسها؟! هل تسقط راية الحق وترفع الراية البيضاء؟! لا وألف لا!! لا استسلام ولا انكسار ولا سقوط، بل اختارت لنفسها وقررت أن تتعلم السياقة وقد أصبحت على أعتاب الشيخوخة، وبعد إقبال وإصرار نجحت وحصلت على رخصة سياقة، وأقبلت تسوق السيارة من بيتها في اللد نحو أبواب السجون التي كان يقبع في ظلامها ولداها محمد ومخلص. وهناك على أعتاب السجون كانت تترجل من سيارتها كأنها اللبؤة، وكأن زئيرها كان يزلزل السلاسل والقيود، ثمَّ كانت تمتع ناظريها من رؤية ولديها الأسيرين!!
وظلَّت على ذاك الحال تنحت من البلاء الولاء لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ثمَّ الولاء لمسقط رأسها اللد والولاء للقدس والمسجد الأقصى المباركين وأكنافهما!! ثمَّ خرج أسيرها محمد من ظلمة السجن إلى شمس الحرية، وظلَّ أسيرها مخلص في أسره، ومضى عام بعد عام ولا يزال مخلص في أسره، ومضى رمضان بعد رمضان ولا تزال لمّة أسرتها حول مائدة الإفطار يغيب عنها مخلص، ومضى عيد بعد عيد، وظلت أفراح العيد مخدوشة كئيبة تسأل متى يعود مخلص من غيابه؟! وطالت أيام أسر مخلص، وأصبحت الأيام سنين، ثم أصبحت السنون عقودًا، ولا يزال مخلص بعيدًا عن حضن أمه أم محمد برغال. ومرّت عليها تلك العقود وما أطولها وما أثقلها، فكانت سنون عجافًا لا تحمل لها إلا الأحزان والآلام، وكانت سنون عابسة لم تنجح فيها أن ترى أسيرها مخلص إلا من خلف جدار زجاجي سميك، ولم تنجح أن تسمع صوته إلا عبر سماعة هاتف محاصرة نصبتها إدارات السجون في قاعات زيارات أهل أسرى الحرية لأبنائهم، وأخضعتها تلك الإدارات لرقابتها المشددة.
فإذا كانت الزيارة محددة بنصف ساعة كانت سماعة الهاتف تتعطل فورًا عندما كانت تمر ثلاثون دقيقة على أم محمد برغال وهي تداعب أسيرها مخلص بأصدق العواطف وأرق الكلمات وأسمى الأنفاس!! وصبرت على ذاك الحال، ثم صبرت ثم صبرت كأني بها تقول: سأصبر حتى يعجز الصبر عن صبري، وكانت لا تفوت فرصة لأي نشاط كانت تقيمه لجنة الحريات المنبثقة عن لجنة المتابعة العليا نصرة لأسرى الحرية، فرغم أنها من أهلنا الصامدين في اللد إلا أن عرابة البطوف وسخنين والناصرة وكفر-كنا وأم-الفحم وعارة وعرعرة وكفر-مندا كم كانت قريبة منها، وكأنها كانت لصيقة ببيتها عندما كانت تسمع عن نشاط شعبي قام في إحدى هذه البلدات نصرة لأسرى الحرية!! وأنا أشهد أنه ما من نشاط قام يهتف “الحرية لأسرى الحرية” إلا وكانت في مقدمة صفوفه رغم أن ظهرها احدودب، ورغم أنَّ العظم وهن منها، إلا أنها هيهات هيهات أن تتوقف ولو لثانية عن نصرة أسرى الحرية. وظلّت على ذاك الحال حتى كان يوم وفاء الأحرار، وكان أسيرها مخلص على موعد مع الحرية، فخرج من ضمن من خرج من أسرى وأسيرات شعبنا الفلسطيني!! فكان يوم وفاء الأحرار، هو اليوم الذي احتضنت فيه أم محمد برغال أسيرها مخلص لأول مرة منذ عقود، وكنت يومها أعيش محنتي في لندن، فاتصلت بها هاتفيًا لأهنئها، ولمّا سمعت صوتي ردَّت عليَّ متلعثمة من شدة فرحتها. ولا أنسى أن أقول أن الله تعالى أكرمني وأكلت من طعامها ذات يوم في بيتها. وظلت على ذاك الموقف فارسة على فرسها لم تترجل عن فرسها حاملة الراية حتى انتقلت إلى رحمة الله تعالى قبل أيام. الفاتحة على روحها الطاهرة.