صيحات جيلانية (3) حول سائر أسباب انحطاط المسلمين

الشيخ رائد صلاح

مواصلة لما كتبته في المقالين السابقين بعنوان (صيحات جيلانية) حيث اجتهدت أن أستعرض بعض الأسباب التي اعتبر الإمام عبد القادر الجيلاني أنّها وقفت من وراء انحطاط المسلمين في زمانه وذهاب ريحهم وتطاول صعاليك أهل الأرض عليهم حيث أشار الإمام الجيلاني إلى أن من بين هذه الأسباب هو سوء حال العلماء في زمانه وعدم فهم القدر في وعي المسلمين، وقد كتبتُ عن هذين السببين في المقالين السابقين، والآن سأقف على بقية الأسباب التي دندن عليها الإمام الجيلاني مؤكدا أنه لا خروج من المأزق الذي وقع فيه المسلمون في زمانه إلا بالتخلص من كل تلك الأسباب التي اجتمعت عليهم فهما عقيما وسلوكا معيبا والتي كادت أن تتسبب باستئصال بيضتهم، وسائر هذه الأسباب هي كما يلي كما وجدت ذلك في كتاب (الفتح الرباني):

3- قسوة القلوب: فما عادت قلوب المسلمين تنتفع بموعظة، وما عادت تتذوق حلاوة طاعة أو مرارة معصية، وحول ذلك قال الإمام الجيلاني:

* (ما أقسى قلوبكم، الأمانة قد ذهبت من بينكم، الرحمة قد ذهبت فيما بينكم، أحكام الشرع أمانة عندكم وقد تركتموها وخنتم فيها).

4- مخالفة شرع الله تعالى: حيث تجرأ الحكام والعلماء والعوام على مخالفة شرع الله تعالى، فوهنت مظاهر الطاعة، وتفاقمت مظاهر المعصية، وحول ذلك قال الإمام الجيلاني:

* (لمَ لمْ تتأدبوا بعبادة الحق عز وجل ومتابعة شرعه).

5- الغفلة عن سوء الحال: حيث استفحل الانحطاط وسوء الحال في حياة المسلمين، واعتادوا عليه وألفوه، لدرجة أنهم غفلوا عمَّا كانوا عليه من فجور، وعمَّا غرقوا فيه من ذل وهوان، وحول ذلك قال الإمام الجيلاني:

* (يا قوم! استحيوا من الله تعالى حق الحياء، لا تغفلون، زمانكم يضيع، قد اشتغلتم بجمع ما تأكلون، وتأملون ما لا تدركون، وتبنون ما لا تسكنون).

* (يا كذابين! اصدقوا، يا هاربين من مولاهم ارجعوا، اقصدوا بقلوبكم الحق تعالى وصالحوه).

6- التَّردّي الأخلاقي: حيث تحوَّلت حياة المسلمين إلى حاضنة للفجور الأخلاقي، وجاهروا به بلا حياء، وحول ذلك قال الإمام الجيلاني:

* (… قد ظهر سوق النفاق، سوق الكذب).

* (يا مصرّين على المعاصي عن قريب يأتيكم العمى والصمم والزمن والفقر وقساوة قلوب الخلق عليكم، تذهب أموالكم بالخسارات والمصادرات والسرقات).

7- شيوع الترف والشهوات والإسراف والتبذير: حيث أنتج مناخ الانحطاط والغفلة والتَّردي الأخلاقي الذي خيَّم على المسلمين أنتج فشو الترف والشهوات وسائر المشتقات، وحول ذلك قال الإمام الجيلاني:

* (ضاع عمركم في أكلوا وأكلنا، وشربوا وشربنا، ولبسوا ولبسنا، وجمعوا وجمعنا).

* (لا تعرفون سوى الأكل والشرب والنكاح والنوم).

* (كل حديثكم في الغلاء والرخص وأحوال السلاطين والأغنياء، أكل فلان، لبس فلان، تزوج فلان، استغنى فلان، افتقر فلان).

8- فتنة الأزواج والأولاد: حيث قاد ذاك الانحطاط الذي أزرى بالمسلمين إلى انحلال في أجواء الأسر والبيوت، وحول ذلك قال الإمام الجيلاني:

* (ترضون أزواجكم بسخط ربكم، كثير من الخلق يقدمون رضا أزواجهم وأولادهم على رضا الحق عز وجل، إنني أرى حركاتك وسكناتك وكل همّك لنفسك وزوجتك وولدك).

9- ترك العمل بالعلم: حيث قادت أجواء ذاك الانحطاط الذي تغلغل في المسلمين حتى النخاع إلى عدم تفاعلهم بما كانوا يسمعونه من خطب الجمعة ودروس المساجد وفتاوي العلماء، وحول ذلك قال الإمام الجيلاني:

* (يا غلام! علمك يناديك: أنا حجة عليك إن لم تعمل بي، وحجة لك إن عملت بي، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يهتف العلم بالعمل فإن أجاب وإلا ارتحل).

* (علمك يناديك ولكنك لا تسمعه، لأنه لا قلب لك).

* (يا قوم! لا تهتوسوا، أنتم هوس، هذا العلم لا ينفعكم بلا عمل، إلا أن تعملوا بهذا السواد على البياض).

* (ذهاب دينكم بأربعة أشياء: الأول أنكم لا تعملون بما تعلمون، الثاني أنكم تعملون بما لا تعلمون، الثالث: أنَّكم لا تتعلمون ما لا تعلمون، فتبقون جهالا، الرابع أنّكم تمنعون الناس من تعلّم ما لا يعلمون).

* (يا غلام! قد ضيّعت العمر في كتب العلم وحفظه من غير عمل، ايش ينفعك).

10- الوقوف عند عبادة الظاهر فقط: حيث خلخلت كل تلك الأسباب السابقة حياة المسلمين، وباتت صلاتهم مجرد حركات، وبات صومهم مجرد جوع وعطش، وبات حجهم نزهة دنيوية، وباتت زكاتهم سمعة ومباهاة، مما جعل عبادتهم عبادة ظاهر فقط، لا أثر لها في تصحيح حياتهم، وتهذيب سلوكهم، وصيانة أخلاقهم، وحول ذلك قال الأمام الجيلاني:

* (فقد كثر من يصلي ويصوم، ويحج ويزكي، ويفعل أفعال الخير، للخلق لا للخالق).

* (ويحك! لسانك مسلم وأمَّا قلبك فلا، قولك مسلم أمَّا فعلك فلا، أنت في جلوتك مسلم، أمَّا في خلوتك فلا).

* (لو سجدت لله ألف عام على الجمر وأنت مقبل بقلبك على غيره لما نفعك ذلك… ايش ينفعك إظهار الزهد في الأشياء مع إقبالك عليها بقلبك… ما تستحي!! تقول بلسانك: توكلت على الله، وفي قلبك غيره).

* (كل ظاهر لا يوافقه الباطن فهو هذيان، أما سمعت قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما صام من ظلَّ يأكل لحوم الناس) وقد بيَّن صلى الله عليه وسلم أن ليس الصيام ترك الطعام والشراب والمفطرات فحسب، بل حتى يضاف إليه ترك الآثام).

* (لكم أقوال بلا أفعال، وأفعال بلا إخلاص وتوحيد).

* (تكذب حتى في صلاتك، لأنك تقول: الله أكبر، وتكذب لأن في قلبك إلها غيره، كل ما تعتمد عليه فهو إلهك، كل شيء تخاف منه وترجوه فهو إلهك… ما تستحي أن تقول لا إله إلا الله ولك ألف معبود غيره).

* (…. وهذا شيء لا يجيء بتغيير الخرق، وتصفير الوجوه، وجمع الأكتاف ولقلقة اللسان بحكايات الصالحين، وتحريك الأصابع بالتسبيح والتهليل وإنما يجيء بالصّدق في طلب الحق).

* (أنت إذا قمت إلى الصلاة بعت واشتريت وأكلت وشربت ونكحت بقلبك ووسوستك).

* (أرى وجوهكم إلى الكعبة، وقلوبكم إلى الدرهم والدينار).

ثمَّ ماذا؟! يوم أن نتدبر كل هذه الأسباب التي استعرضها الإمام الجيلاني والتي وقفت من وراء انحطاط المسلمين في زمانه فإنّنا نقول بلا تردد: ما أشبه حالنا اليوم بحال المسلمين في زمان الإمام الجيلاني، فتلك الأسباب العشرة التي اجتمعت عليهم قد اجتمعت علينا، بنسبة مائة بالمئة، وهذا يعني أنَّ الدواء الذي قدَّمه الإمام الجيلاني لمسلمي زمانه، يصلح أن يكون دواء لنا اليوم، فما هو؟! جوابا على هذا السؤال سأتحدث في المقال المقبل بإذن الله تعالى…