خدعتني لحيته
الشيخ كمال خطيب
إن أشدّ الخطر على الإسلام ليس الذي يكون من أعدائه وإنما من أبنائه، وليس الذي يأتي من الخارج وإنما الذي يكون من الداخل، لأن خطر الأعداء الخارجيين، تكون دائمًا مستعدًا له وتتصدى له، بينما الخطر الداخلي هو الذي يتفشى ويفسد ويهز الأركان والقواعد دون الانتباه إليه إلا بعد إذ يفعل فعلته.
وإنها جملة نماذج لسلوكيات ومفاهيم مغلوطة ممن ينتسبون للدين تكون سببًا في فتنة الناس وصدّهم عن سبيل الله. وإذا كان نبي الله إبراهيم وهو النبي المعصوم قد دعى الله تعالى قائلًا: {رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} آية 5 سورة الممتحنة، ففي بعض تفسيرات المفسرين أن إبراهيم عليه السلام قد دعا الله تعالى أن يجنبه الزلل والخطأ حتى لا يراه الناس عليه فيُفتنون ويقولون ما دام إبراهيم فعلها فلمَ لا نفعلها نحن فتكون فتنة لهم.
ما جاء بهذه الخبيثة؟
يقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله تعالى في كتابه الرائع “الحق المر”: دخلت مكتبي فتاة لم يعجبني زيَّها أول ما رأيتها، غير أني لمحت في عينيها حزنًا وحيرة يستدعيان الرفق بها.
جلست تبث شكواها وهمومها متوسمة عندي الخير! فاستمعت طويلًا، وعرفت أنها فتاة عربية تلقت تعليمها في فرنسا، لا تكاد تعرف عن الإسلام شيئًا.
شرعت أشرح حقائق، وأرد شبهات، وأجيب عن أسئلة، وأفنّد أكاذيب المبشرين والمستشرقين حتى بلغت مرادي أو كدت! لم يفتني أن أصف الحضارة الحديثة بأنها تعرض المرأة لحمًا يُغري العيون الجائعة.
استأذنت الفتاة طالبة أن آذن لها بالعودة، فأذنت. دخل بعدها شاب عليه سمات التدين يقول بشدة: ما جاء بهذه الخبيثة إلى هنا؟
فأجبت: الطبيب يستقبل المرضى قبل الأصحاء، ذلك عمله!! قال: طبعًا نصحتها بالحجاب! قلت: الأمر أكبر من ذلك، هناك المهاد الذي لا بد منه، هناك الإيمان بالله واليوم الآخر والسمع والطاعة لما تنزل به الوحي فى الكتاب والسنّة، والأركان التي لا يوجد الإسلام إلا بها في مجالات العبادات والأخلاق، فقاطعني قائلًا: ذلك كله لا يمنع أمرها بالحجاب.
قلت في هدوء: ما يسرني أن تجيء في ملابس راهبة، وفؤادها خال من الله الواحد، وحياتها لا تعرف الركوع والسجود، إنني علّمتها الأسس التي تجعلها من تلقاء نفسها تؤثر الاحتشام على التبرج. وقلت له بصرامة: أنا لا أحسن جرّ الإسلام من ذيله كما تفعلون، إنني أشدّ القواعد وأبدأ البناء بعدئذ، وأبلغ ما أريد بالحكمة.
وجاءتني الفتاة بعد أسبوعين بملابس أفضل، وكانت تغطي رأسها بخمار خفيف، واستأنفت أسئلتها، لكن الفتاة قالت: إنها تكره رجال الدين، وما تحب سماعهم! قلت: لماذا؟ قالت: قساة القلوب غلاظ الأكباد!! إنهم يعاملوننا بصلف واحتقار!
لا أدري لماذا تذكّرت “هند” امرأة أبي سفيان التي أكلت كبد حمزة رضي الله عنه ونالت من الإسلام ما نالت، إنها كانت لا تعرف رسول الله، فلما عرفته واقتربت منه وآمنت به قالت له هذه الكلمات: “يا رسول الله، والله ما كان على ظهر الأرض أهل خباء أحب إلي أن يذلّوا من أهل خبائك!! وما أصبح اليوم على ظهر الأرض أهل خباء أحب إلي أن يعزُّوا من أهل خبائك”.
إن نبع المودَّة الدافق من قلب الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بدَّلَ القلوب من حال إلى حال، فهل يتعلم الدعاة ذلك من نبيهم فيؤلفون بدلًا من أن يفرّقوا. ويبشّرون بدلًا من أن ينفروا؟!
ولا يهمك حبيبنا، ألف رأس فداك
قال تعالى في كتابه العزيز: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَٰذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَىٰ طَعَامًا فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ..} آية 19 سورة الكهف. مجيء كلمة “وليتلطف” في منتصف القرآن، فما قبلها من الكلمات يساوي عدد ما بعدها من الكلمات، فهي الكلمة التي في وسط ومنتصف القرآن الكريم كما ذكر بعض المفسرين، ففي موقعها هذا لطيفة، فالتلطف هو نوع من التوسط والوسطية دون إفراط أو تفريط. وجاءت في وسط القرآن تمامًا لتدلل على أهمية الوسطية الحق والتي هي منهج رباني. وإذا كان التلطف مع الأعداء مطلوبًا لتحصيل منفعة دينية فهو مع المؤمنين أولى.
خرج شاب إلى المسجد، رنّ هاتفه المحمول في الصلاة خطأ، هاجمه المصلون والإمام قائلين: أتعصي الله في بيته؟ ألا تخاف أن يخسف الله بك؟ ومن يومها خرج الشاب من المسجد ولم يعد.
وفي نفس اليوم توجّه نحو أحد المقاهي، وهناك خطأً أوقع رأس الشيشة وصحن الفحم على الأرض. أقبل إليه صاحب المقهى قائلًا: ولا يهمك حبيبنا ألف رأس فداك. ومن يومها أصبح زبونًا دائمًا في المقهى. فبشّروا ولا تنفّروا. إنها نصيحة حبيبنا محمد ﷺ.
ولو أن الآباء والأمهات والأزواج والزوجات تلطفوا مع من حولهم بالقول والعمل لانحلت كثير من مشاكلهم ولساد الوئام أكثر البيوت، فالعلاقات كالعصافير إن أمسكتها بإحكام تموت وإن أمسكتها بتساهل تطير، فقط أمسكها بعناية وستبقى معك وتستمر بلا انقطاع، فلا شيء يخترق القلوب كلطف العبارة ونبل الاستقامة ولين الكلام وسلامة الصدر ونقاء القلب.
لما رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه نارًا موقدة في ليل قال: يا أهل الضوء. وكره أن يقول يا أهل النار. وكل هذا مستمد من قوله تعالى: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ ۚ…} آية 53 سورة الإسراء. والنبي ﷺ يقول: من أعطي حظّه من الرفق فقد أعطي حظّه من الخير، ومن حرم حظّه من الرفق فقد حرم حظّه من الخير”. وصدق الشاعر إذ يقول:
ولو سار ألف مدجج في حاجة لم يقضها إلا الذي يترفق
وكلنا يعلم ما ورد في الحديث الصحيح وكيف تعامل النبي ﷺ مع الأعرابي الذي بال في المسجد: أن رجلًا أعرابيًا دخل المسجد، فبال في طائفة -طرف المسجد- فزجره الناس، فقال ﷺ: “لا تزرموه، ونهاهم أن يتعرضوه”. وقال: “إنما بعثتم ميسّرين ولم تبعثوا معسّرين”. فلما فرغ الأعرابي من بوله أمر النبي ﷺ أن يصب على بوله سجلًا من ماء -دلو ماء- واكتفى بذلك.
لم يزجره ﷺ ولم ينهره حتى لا تعمّ النجاسة كل أطراف المسجد، ثم إنه من حرجه الذي قد تسببه الغلظة ، فإنه قد ينفر من الإسلام الذي ما زال به حديثًا، وتغلب عليه عادات الجاهلية وجفاوة أهل الصحراء.
خدعتني لحيته
قال الله تعالى: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} آية 12 سورة الأحزاب. فهؤلاء هم سبب انهيار الجبهة الداخلية لأي بلد. فإن قالوا فاحذر أن تسمع لقولهم، والمنافقون يتغلغلون في صفوف المؤمنين ويسعون إلى تفتيتها من الداخل، ليس لهم هم ّولا شغل عند المحن إلا التخويف وتثبيط العزائم، يفرحون لما يصيب المؤمنين من سوء ومحن، ويحزنون لكل خير يصيب المسلمين، عنهم قال الله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ ۖ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ۖ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ ۖ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ۚ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ ۚ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ ۖ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ} آية 4 سورة المنافقون.
عن جبير بن نفيل قال: دخلت على أبي الدرداء منزله بحمص فإذا هو قائم يصلي في مسجده، فلمّا جلس يتشهد جعل يتعوذ بالله من النفاق، فلما انصرف قلت: غفر الله لك يا أبا الدرداء! ما أنت والنفاق؟ قال: اللهم غفرًا، ثلاثًا، من يأمن البلاء؟ من يأمن البلاء؟ والله إن الرجل ليفتن في ساعة فينقلب عن دينه”. قال أحد الصالحين: “لو كان للمنافقين أذناب لما استطعنا السير في الشوارع والطرقات من كثرتها”.
يروى أن طائرًا في زمن نبي الله سليمان قد جاء إلى بركة ماء ليشرب، لكنه وجد أطفالًا يلعبون قريبًا من البركة. انتظر الطائر بعيدًا حتى غادر الأطفال وابتعدوا عن البركة، وما أن غادر الأطفال وإذا برجل ذي لحية طويلة يصل إلى البركة، فقال الطير في نفسه: هذا رجل وقور ولا يمكن أن يؤذيني، فنزل الطائر إلى بركة الماء ليشرب وما أن رآه الرجل ذو اللحية فرماه بحجر ففقأ عينه، فذهب الطائر إلى نبي الله سليمان عليه السلام شاكيًا.
استدعى سليمان الرجل صاحب اللحية الطويلة وقال له: ألك حاجه عند هذا الطائر حتى رميته بحجر ففقأت عينه؟ قال: لا، فأصدر نبي الله سليمان حكمًا بفقء عين الرجل. اعترض الطائر قائلًا: يا نبي الله إن عين الرجل لم تؤذني وإنما لحيته هي التي خدعتني، فإني اطلب أن تقص لحيته عقوبة له حتى لا ينخدع بها أحد غيري.
ترى لو حضر هذا الطائر زماننا الذي نحن فيه فكم لحية سيطالب بقصها.
صنع في الصين
يروى أن صاحب مصنع في الصين وقف مذهولًا حين رفض بعض التجار العرب مشاركته في وليمة عشاء أعدها تكريمًا لهم، والسبب أن اللحم لم يذبح وفق الشريعة الإسلامية. وكان هؤلاء التجار قد طلبوا منه بضاعة صينية بشرط أن يكتب عليها “صنع في ألمانيا”. تساءل صاحب المصنع الصيني: أي دين هذا الذي يعتنقه هؤلاء التجار؟!
وواقع بعضنا نسخة من هؤلاء التجار تتسع وتضيق. فكم من شخص يفتخر بأنه متدين وأنه ملتزم، ولكنك تذهل عندما تراه يكذب ويظلم ويفتري على الناس ويسيء إلى جيرانه وأهل بيته؟ وكم من شخص يحمل مسبحة طويلة ولسانه لا يتوقف عن ذكر الله ولعله يزاحم من في الصفوف الأولى في المساجد، فتتعجب من قسوة قلبه وسوء معاملته، فمشكلة هؤلاء أن الواحد منهم ينسى أو يتناسى أن الدين المعاملة ولا يأخذ من الدين إلا ما يعجبه.
وكم من الزعماء العرب والمسلمين أصحاب الجلالة والفخامة والسيادة والسمو والمعالي والسماحة، من أصحاب التصريحات النارية وبيانات الشجب والاستنكار ضد سياسات إسرائيل وعدوانها على شعبنا الفلسطيني عامة وعلى المسجد الأقصى خاصة.
فإذا كانت بضاعة أولئك التجار المصنوعة في الصين قد زيّفت وكُتب أنها مصنوعة في ألمانيا، فإن تصريحات وبيانات هؤلاء مزيفة، ولو كشفنا عن قلوب وتاريخ أصحابها لوجدنا مكتوبًا “صنع في إسرائيل صنع في أمريكا” فتبًا لكم يا هؤلاء.
يقول المرحوم الشيخ مصطفى السباعي: “أشد المجرمين عذابًا عند الله من حرّف دينه واستغل عباده وساير الظالمين في أهوائهم، وعادى المصلحين في آرائهم ثم لم يخجل أن يلبس لباس المتقين ويعمل أعمال الفاسقين”.
أما الشيخ محمد الغزالي رحمه الله فيقول: “إن انتشار الكفر في العالم يحمل نصف أوزاره متدينون بغّضوا الله إلى خلقه بسوء صنيعهم وسوء كلامهم، وقد تأملت في أحوال أناس يعملون في الحقل الإسلامي ويتحمسون لنصرة دينهم، ولكنهم يحملون في دمائهم جراثيم الفوضى القديمة والجهالة المدمرة، فأدركت أن هؤلاء يتحركون في مواضعهم وأنهم يوم يستطيعون نقل أقدامهم فإنهم سيتوجهون إلى الوراء لا إلى الأمام، وسيضيفون إلى هزائمنا الشائنة هزائم قد تكون أنكى وأخزى”.
رحم الله الشيخ الغزالي والشيخ السباعي، فلو أنهما اليوم بين ظهرانينا لوجدا مما حذّرا منه قائمة طويلة من النماذج السيئة في عرضها للإسلام والقدوات السلبية المنفرة بل المدمرة للجبهة الداخلية والصف الداخلي والذين هم سبب مباشر من أسباب التثبيط والتيئيس والجفاء عن الدين، لكن والحمد لله أن الله سبحانه دائمًا ما يسخر لهذا الدين نماذج من القدوات كأنهم من عصر الصحابة رضي الله عنهم، يردّون عن الإسلام السهام وينفون عنه خبث وفساد أولئك المفسدين، فمن لم يستطع أن ينتصر للحق فلا أقل من أن يمتنع من التصفيق للباطل.
أما من صنعوا في الصين وإسرائيل وأمريكا، فالحمد لله أن أمرهم قد بات مكشوفًا ولن يطول الزمان حتى تتخلص الأمة من زيفهم وتستبدلهم بأصلاء أوفياء، زعماء وعلماء يحملون هم الإسلام بصدق ويرفعون رايته عالية خفاقة في ربوع العالمين.
نحن إلى الفرج أقرب فأبشروا.
“بتصرف من كتب الدكتور حسان شمسي باشا”
رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة.
والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.