الإسكافي حمدان.. نصف قرن بإصلاح الأحذية في غزة
داخل محله المطل على الجامع العمري الأثري وسط مدينة غزة، يجلس الستيني خليل حمدان أمام آلة خياطة يزيد عمرها عن أكثر من 25 عاما، لينهي بعضا من أعماله ضمن حرفة تقليدية لإصلاح الأحذية والحقائب ما زالت تقاوم الاندثار.
الإسكافي حمدان ورث هذه المهنة من والده، الذي تعلّم صناعة الهيكل الخارجي للأحذية في مدينة يافا قبل نكبة الفلسطينيين عام 1948، وعلّمها بدوره لأبنائه الذين بات عدد منهم يعملون معه.
فمنذ أن كان بعمر 10 أعوام، دأب حمدان على مساعدة والده في صناعة هياكل الأحذية وصيانتها، وتعلّم آنذاك أبجديات الحرفة إلى جانب مواصلة رحلته الدراسية.
لم تشغله الحرفة عن إكمال تعليمه الثانوي والالتحاق بالجامعة، لكنه اضطر قسرا إلى تركها في عامها الثاني تحت سيف الظروف الاقتصادية التي منعته من الاستمرار.
ويلفت حمدان، إلى أهمية دمج الحرفة مع الشهادة الدراسية التي تصقل مهارة الصانع وخبرته وتجعله أقرب في فهم الناس واحتياجاتهم.
ومع تطور الحياة وانتشار المنتجات المستوردة، أوقف الرجل صناعة هياكل الأحذية التي يطلق عليها بالعامية اسم “مكينجي” ليتخصص فقط في إصلاح أعطاب الحقائب والأحذية.
وفي الوقت الحالي، طرأت تغيرات على صيانة الأحذية حيث كانت تعتمد في السابق، وفق حمدان، على الإصلاح بواسطة تثبيت المسامير لتتطور للخياطة بأحدث الأجهزة والآلات.
وتعتبر مهنة الإسكافي من المهن الشعبية القديمة في غزة، التي حالت الأوضاع الاقتصادية في القطاع دون اندثارها وحافظت على وجودها بشكل نسبي.
ذكريات الطفولة
مشيرا إلى الرصيف الملاصق لمحله مقوّس السقف الذي لا تزيد مساحته عن 5 أمتار، يقول حمدان، إنه كان يجلس هنا قبل أكثر من نصف قرن وهو يساعد والده.
ويضيف: “هذا المكان يحمل ذكريات الماضي الجميل والطفولة حينما كنت أرافق والدي في أعماله وتفاصيل يومه”.
وأوضح أن “الأوضاع الاقتصادية للسكان كانت في ذلك الزمن في حالة من الرخاء، فيما كانت هذه المهنة تنتشر في أرجاء واسعة من فلسطين”.
لم يغيّر حمدان مكان عمله منذ أن كان يعمل برفقة والده قبل أكثر من نصف قرن، مبينا أن والده افتتح في البداية محلا في سوق القيسارية الأثري (مخصص حاليا للذهب)، لينقله عام 1961 إلى المنطقة المقابلة للمسجد العمري.
وللمكان الذي يقع فيه المحل خصوصية لدى حمدان، حيث يتطرف نهاية إحدى تفرعات سوق الزاوية القديم مطلا على أكبر جوامع القطاع (العمري)، مكتسبا مميزات خاصة لا تحظى بها المحلات التجارية العصرية التي تقع في مناطق غير شعبية، كما قال.
وعن تلك الميزات، قال حمدان: “أولا التقارب الاجتماعي مع البائعين والزبائن كونه يقع في تفرع سوق شعبي ووجود حالة من الودّ التي تجمع الموجودين في المكان، ثانيا قربه من الجامع العمري الذي يضفي أجواء روحانية للجالسين في هذا المكان سواء من صوت الأذان أو الأجواء التي تكون خاصة في شهر رمضان”.
ويستكمل قائلا: “في مواعيد الصلاة نتوجه إلى الجامع فنجد مصلين يجلسون في زوايا متباعدة كلُّ يحمل مصحفه ويرتل القرآن ويناجي ربه”.
ويشير إلى أن هذا المكان، يضفي بهجة من نوع خاص في رمضان، حيث تباع الخضراوات والعصائر، فيشعر الجالس في المكان أو مرتاده بأجواء كانت تتشابه مع الأجواء الرمضانية القديمة المعروفة ببساطتها.
من الصناعة إلى الإصلاح
بعد سنوات طويلة من صناعة الهياكل الخارجية للأحذية قضاها حمدان مع والده، اضطر لوقفها عام 1990 بالتزامن مع وفاة والده والتوجّه فقط لإصلاح الأحذية والحقائب.
ويرجع حمدان ذلك إلى أن تلك الفترة شهدت غزوا للبضائع الصينية زهيدة الثمن، حيث كان المستهلك الفلسطيني يتجه آنذاك لشراء أحذية وحقائب جديدة بدلا من التالفة.
ويقول إن الأوضاع الاقتصادية في تلك الفترة كانت أفضل من الوقت الحالي وكانت تتيح للمواطن شراء الجديد من المستلزمات.
فكانت عملية إنتاج الأحذية بشكل محلي آنذاك تكلّف أكثر من نظيرتها المستوردة ما أثر على هذه المهنة بشكل كبير.
فانتقل للصيانة والإصلاح فقط خاصة في ظل ظروف اقتصادية يعيشها سكان القطاع ساهمت في إقبال المواطنين على محلّه وسط انعدام قدرتهم الشرائية.
الطبقات الاجتماعية
بينما يواصل حديثه عن هذه المهنة، يتناول حمدان حقيبة بدت مهترئة وممزقة، قال إنها تعود لإحدى طالبات المدارس حيث أودعتها لديه لإصلاحها.
ويذكر أن هناك إقبالا من المواطنين على إصلاح الحقائب والأحذية المهترئة لديهم، خاصة من ذوي الطبقتين المتوسطة والفقيرة.
ويستكمل قائلا: “يفضل بعض الناس صيانة الأحذية التي يكون بها ضرر قليل ومرتفعة الثمن، بدلا عن شراء واحدة جديدة بمبلغ باهظ”.
كما يلجأ السكان لإصلاح الأضرار البسيطة التي تصيب حقائبهم، كأعطال في السحاب مثلا، بدلا من إتلافها وشراء واحدة جديدة، وفق حمدان.
ويشير إلى أن إصلاح الأحذية والحقائب بالكاد يُكلف المواطن دولارا واحدا أو دولارا ونصف في أسوأ الأحوال، وهو سعر يتناسب مع الوضع الاقتصادي المتردي للسكان.
ويزداد إقبال الناس على هذه المحال، الآخذة بالتراجع في غزة وفق حمدان، في مواسم معينة كـ”المدارس والأعياد والمناسبات الوطنية”.