لطائف قرآنية
الشيخ كمال خطيب
إنه شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ} آية 185 سورة البقرة. وقد قال المفسرون أنه أنزل من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، وقال آخرون أنه ابتدأ بتنزيله في ليلة القدر من رمضان {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} آية 1 سورة القدر. ولذلك فإن أعظم عبادة يتقرب بها المسلم إلى الله تعالى بعد الصيام {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} فإنما هي قراءة القرآن الكريم والإقبال عليه تلاوة وسماعًا وتدبرًا، حتى أن من كبار الصحابة والتابعين والسلف والخلف، كانوا في شهر رمضان يتوقفون عن كل شيء، وإن كان من أبواب الخير كمجالس الإفتاء وقراءة الكتب، فلا يقرؤون إلا كتاب الله تعالى. وعليه فإنها جملة لطائف عن القرآن الكريم ومع القرآن الكريم نوردها، بها نذكّر بعظمة هذا الكتاب الذي شرّفنا الله سبحانه بأن هدانا لهذا الدين حيث القرآن الكريم أساسه وعماده ومصدر تشريعه الأول.
والنظر إلى المصحف الشريف عبادة
قال رسول الله ﷺ: “اقرأوا القرآن فإنكم تؤجرون عليه، أما إني لا أقول ألف لام ميم حرف ولكن ألف عشر ولام عشر وميم عشر وتلك ثلاثون”. وقال رسول الله ﷺ: “من سرّه أن يحب الله ورسوله فليقرأ في المصحف”. وليس أنه ﷺ كان يقرأ القرآن ويحبب إلينا قراءته، بل إنه كان يحب أن يسمعه يتلى عليه، فقد قال لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه: “اقرأ عليّ القرآن. فقال: أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: إني أحب أن أسمعه من غيري”.
وهذا أسيد بن حضير رضي الله عنه بينما كان يقرأ في الليل سورة البقرة وفرسه مربوط عنده، إذ جالت الفرس فسكت فسكنت، فقرأ فجالت الفرس، فسكت وسكنت الفرس، ثم قرأ فجالت الفرس وكان ابنه يحيى قريبًا منه فأشفق أن تصيبه، فلما اجترّه رفع رأسه في السماء حتى ما يراها، فلما أصبح حدّث النبي ﷺ فقال له: اقرأ يا ابن الحضير، اقرأ يا ابن الحضير. قال: فأشفقت يا رسول الله أن تطأ يحيى وكان منها قريبًا فرفعت رأسي فانصرفت إليه، فرفعت رأسي إلى السماء فإذا مثل الظلة فيها أمثال المصابيح فخرجت حتى لا أراها، قال: وتدري ما ذلك؟ قال: لا، قال: تلك الملائكة دنت لصوتك ولو قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها لا تتوارى منهم.
وقال أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه: “لو أن قلوبنا طهّرت ما شبعنا من كلام ربنا وإني لأكره أن يأتي عليّ يوم لا أنظر في المصحف”. وما مات عثمان رضي الله عنه حتى خرّق مصحفه من كثرة ما كان يديم النظر فيه”. أي يقرأ فيه. بل إنه قُتل مظلومًا رضي الله عنه والمصحف الشريف بين يديه.
لا تهجروا القرآن
اقرأ القرآن ولا تهجره، وإياك أن تكون من الذين يكبون على قراءة القرآن في رمضان ثم إذا انقضى رمضان طواه ووضعه في خزانة الكتب. إنك إن فعلت ذلك كنت من الذين شكاهم النبي ﷺ إلى ربه عز وجل {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} آية 30 سورة الفرقان.
وفي مرض موته رضي الله عنه بكى خالد بن الوليد وقد أمسك بالمصحف وراح يخاطبه والدموع تنهمر من عينيه قائلًا: “أشغلنا عنك الجهاد”. وإذا كان خالد يعتذر بهذا العذر الجميل “الجهاد” فبماذا نعتذر نحن اليوم بانشغالنا عن كتاب الله، وإذا سُئلنا يوم القيامة فبماذا نجيب؟ شغلنا عن القرآن اللهو، الأراجيل، مباريات كرة القدم، تقليب المواقع والصفحات على الهاتف نضيع عليها الساعات كل يوم بينما لا نجعل لكتاب الله بضع دقائق فيكون القرآن حجة علينا. قال رسول الله ﷺ: “عليك بذكر الله تعالى وتلاوة القرآن فإنه روحك في السماء وذكرك في الأرض”.
فإذا كان خالد بن الوليد يبكي ويقول شغلنا عنك الجهاد، فهل سنبكي يومًا ونقول شغلنا عنك الجهاز؟!
اقرأوا ما تيسر منه
لا تجعل يومًا من أيام عمرك ينقضي دون أن يكون لك ورد من كتاب الله، فإذا لم تكن ممن قال الله تعالى فيهم: {يَتْلُونَهُۥ حَقَّ تِلَاوَتِهِ} آية 121 سورة البقرة، فكن ممن قال الله عز وجل عنهم: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} آية 20 سورة المزمل، فإن فاتك هذا وذاك فلا أقل من تلبية قول الله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} آية 204 سورة الأعراف، فإن لم تستطع أن تقرأ جزءًا من القرآن كل يوم فاقرأ صفحة أو صفحتين.
إن الأسير والسجين أول ما يطلب في سجنه مصحفًا يؤنس وحشته، وإن المريض في المستشفى يطلب مصحفًا ليشفي مرضه، وإن المسافر والمغترب يصطحب مصحفًا ليكون له أمانًا، وإن الميت يتمنى مصحفًا ليرفع به الدرجات، وها نحن لسنا سجناء ولا مرضى ولا مسافرين ولا موتى حتى نطلب القرآن ونتمنى لو كان بين أيدينا، إنه بين أيدينا وأمام أعيننا وعلى رفوف مكتباتنا فهل ننتظر مرضًا أو مصيبة حتى نفزع إلى القرآن؟
لو أن عيني لا تعانق مصحفي بالله قولوا كيف قلبي يبصر
الناس تنظر بالعيون لما ترى إلا أنا بكتاب ربي أنظر
القول الثقيل لليوم الثقيل
قال الدكتور حسان شمسي باشا غفر الله له: “ومن اللطائف القرآنية أن كلمة” ثقيلًا” وردت في القرآن الكريم مرتين فقط، الأولى {إِنَّ هَٰؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا} آية 27 سورة الإنسان، والمقصود به يوم القيامة، والثانية في قوله تعالى: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} آية 5 سورة المزمل، والمقصود به القرآن الكريم. فمن أراد النجاة في اليوم الثقيل فليتمسك بالقول الثقيل، فتمسك بالقرآن قراءة وتطبيقًا والتزامًا وكن قرآنًا يمشي على الأرض كما وصفت أمنا عائشة رضي الله عنها رسول الله ﷺ لما سُئلت عن أخلاقه فقالت: “كان خلقه القرآن”. فلا تفاخر بما تحفظ من القرآن وتقول أنا الحافظ، ولا بما تقرأ وتقول أنا القارئ، ولا بما ختمت من القرآن وتقول ختمت كذا وكذا مرة، بل دع واجعل الناس يرون فيك قرآنًا يمشي على الأرض بأخلاقك ومعاملاتك وسلوكياتك، فليس العبرة أين وصلت في قراءته وحفظه، بل العبرة أين وصل القرآن فيك، وكيف أثر فيك علمًا وعملًا وأخلاقًا.
هو أقرب إليك من حبل الوريد
في كل آية من آيات الدعاء في القرآن العظيم، فإنه لم يرد نداء الله سبحانه بحرف المنادى “يا” قبل لفظ الجلالة “رب”، وإنما حذفت في كل القرآن الكريم، فقد قال سبحانه:
{رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ} آية 143 سورة الأعراف.
{رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا} آية 250 سورة البقرة.
{رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا} آية 89 سورة الأنبياء.
{رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} آية 47 سورة هود.
{رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} آية 18 سورة المؤمنون.
{رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ} آية 11 سورة التحريم.
{رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} آية 8 سورة آل عمران.
إننا إذا نادينا بعضنا البعض في البيت أو المدرسة أو في أي مكان، فإننا نقول يا أحمد، يا خالد، ولكن البلاغة القرآنية أن “ياء” النداء التي تستعمل للبعيد فإنها حذفت من آيات القرآن الكريم، لأن الله تعالى ليس بعيدًا وإنما هو أقرب إلى أحدنا من حبل الوريد {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} آية 16 سورة ق. وأقرب ما يكون الله إلى العبد وهو صائم، لذلك كان الصائم من أصحاب الدعوة التي لا تُرد كما قال ﷺ: ثلاثة لا تُرد دعوتهم، الإمام العادل، والصائم حين يفطر ودعوة المظلوم يرفعها فوق الغمام، وتفتح لها أبواب السماء، ويقول الرب عز وجل وعزتي وجلالي لأنصرك ولو بعد حين”. ولذلك نجد في القرآن الكريم أنه خلال وبين آيات الصيام وردت آية الدعاء {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} 186 سورة البقرة.
اقرأ وارتق
قال رسول الله ﷺ: “يقال لصاحب القرآن اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها”. ولأجل بلوغ تلك المرتبة والمكان والمنزل في الجنة، قال الاستاذ خالد أبو شادي في كتابه – جرعات الدواء-: “فقد حرص سلفنا الصالح رضي الله عنهم أن يحافظوا على صلتهم بالقرآن الكريم حتى آخر لحظة في حياتهم وهم يودعون الدنيا لعلمهم أنه ليس بعدها إلى هذا الدواء سبيل، وليس في الدار المنتقل إليها قطرة واحدة منه. وهذا ما فهمه الجنيد وعمل بمقتضاه. قال أبو محمد الجريري: كنت واقفًا على رأس الجنيد في وقت وفاته وكان يوم جمعة وهو يقرأ القرآن، فقلت له: يا أبا القاسم ارفق بنفسك. قال: يا أبا محمد ما رأيت أحوج مني في هذا الوقت وهو ذا تطوى صحيفتي”. إنه القرآن يسبقك إلى قبرك بينما يُسحب منك ويُؤخذ كل ما كان في جيبك.
لو أن عيني لم تعانق مصحفي بالله قل لي أين قلبي يرتع
يا قارئ القرآن ألف تحية نعم السبيل ونعم باب تقرع
يا قارئ القرآن اقرأ وارتق لك في رحاب الله عيش أمتع
الحمد لله
لقد ورد ذكر الحمد في القرآن الكريم في أكثر من أربعين موضعًا، وأن خمس سور قد افتُتحت بالحمد لله وثلاث سور اختُتمت بالحمد لله.
أما التي افتُتحت بالحمد لله فهي: الفاتحة {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}.
الأنعام {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ}.
الكهف {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا}.
سبأ {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ}.
فاطر {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}.
وأما السور التي اختُتمت بالحمد فهي:
الصافات {وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}.
الإسراء {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلِّ ۖ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا}.
الزمر {وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}.
فالحمد لله على نعمة رمضان، الحمد لله على نعمة القرآن، الحمد لله على نعمة محمد العدنان.
الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
الحمد لله على نعمة الإسلام وكفى بها من نعمة.
نحن إلى الفرج أقرب فأبشروا..
رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة.
والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.