خلفيات الاستقطاب في المجتمع الإسرائيلي.. اليـــهودية: الدين والسياسة (2)
صالح لطفي- باحث ومحلل سياسي
يومًا بعد يوم تتعاظم الهوة داخل المكونات المختلفة للمجتمع الإسرائيلي، وقد أخذت هذه الهوة أبعادا مختلفة وصلت إلى حد التهديد بالعصيان المدني أو/ والمواجهة المسلحة، ففي لقاء مع رئيس الوزراء السابق صرَّح وبوضوح أن الحرب هي السبيل لوقف هذا الاندفاع اليميني لتغيير وجه الدولة ونظامها والانقلاب على الديموقراطية التعددية.
في لقاء مع رئيس المحكمة العليا السابق أهارون باراك أجراه الإعلامي روني كوبان ضمن برنامجه “لقاء” الذي يبث على القناة الفضائية (كان 11) أوضح باراك بما لا يعطي مجالًا للشك، أن دولته قامت على أسس ليبرالية استمدها قانونيًا من وثيقة الاستقلال، وأن عدم اهتمامه باليهودية كدين وقيم وما ينبثق منها وعنها من قوانين وإجراءات لا تهمه بسبب أن إسرائيل دولة ديموقراطية ليبرالية، أي بلغة مبسطة دولة علمانية، ومن ثم فجدل العلاقة بين الدولة والدين ليس محله الفضاءات القضائية باعتبار أنَّ القضاء المعبر الأمثل عن ليبرالية الدولة كبيان لديموقراطيتها وفقًا لرؤية وعقيدة أهرون باراك.
الحرب الإعلامية التي شنَّها اليمين الإسرائيلي ومعه التياران الديني والحاريدي من سياسيين وإعلاميين (راجع صحيفة يسرائيل هيوم وموقع كيبه والقناة الفضائية 14 على سبيل المثال لا الحصر) على باراك سببه الرئيس موقفه الواضح من فصل الدين عن الدولة، كما هو الحال في الليبرالية قيمًا وسلوكًا وسياسةً، فمن اختار أن تكون دولته ديموقراطية، فإن أساسها سيكون عَلمانيًا، وهذه الهجمة كما حللها باراك في ذلك اللقاء ليست على شخصه بل على النظام التأسيسي للدولة، أي على وثيقة الاستقلال التي وقعت عليها كافة القوى السياسية بما في ذلك قوى اليمين والتيار الديني الصهيوني والدينية الإسرائيلية آنذاك، وما يتم حاليًا في أروقة الكنيست هو عمليًا انقلاب على وثيقة الاستقلال، ولذلك تحتاج إسرائيل وفقًا لهذه الرؤية إلى وثيقة استقلالٍ جديدة ومُحدثة، سيكون من أسسها تمتين وتحديد العلاقة بين الدين والقضاء والدين والسياسة والدين والمجتمع وكل أمر يمس الحياة وحركتها داخل المجتمع الإسرائيلي والمؤسسة الإسرائيلية.
ولذلك فإنَّ المجتمع الإسرائيلي يعيش راهنًا قضيتين أحدثتا فيه شقوقًا واسعة تتسع باستمرار، الخلاف القائم والذي تتسع هوته باستمرار بين اليمين واليسار والذي وصل بعض من ذروته في أوسلو وما بعدها من خروجٍ من بعض المناطق في الضفة الغربية، وانسحابٍ من مستوطناتٍ في قطاع غزة، لتكون ردة الفعل راهنًا العمل على ضم مناطق “ج” في الضفة الغربية وتبييض العديد من البؤر الاستيطانية، وإقرار بناء قرابة عشرة آلاف بيت في المستوطنات في الضفة الغربية وشرقي القدس وبناء مستوطنات وتوسيع المستوطنات القائمة في غلاف غزة. والخلاف القائم بين التدين والتديين والعلمانية والتعلمن والذي تتجلى بعض من معالمه في مساعي الحكومة الراهنة لسنّ العديد من القوانين التي ستفرض نظامًا ناظمًا لشكل الحياة الإسرائيلية في مختلف القضايا، تبدأ من الحكومة والأطر الناظمة للحوْكمة والحكم وتمر في المجتمع ومختلف هيئاته ونقاباته ومؤسساته وتنتهي بالجامعات والأطر الأكاديمية والإعلامية.
لقد نجم عن هذه الخلافات التي بدأت تطفو على السطح منذ حرب رمضان في العام 1973 وتعززت مع مسيرة الاستيطان والانقلاب السياسي عام 1977 وإخلاء مستوطنات في شبه جزيرة سيناء لتكون أحد أهم محطات جدل العلاقة بين الدين والسياسة في السياق الإسرائيلي الرسمي “اتفاقية أوسلو”. وقد أودى جدل العلاقة بين السياسة والدين إلى مقتل رابين وخسارة حزب العمل الانتخابات عام 1996 لتبدأ مسيرة تراجعه وليصل إلى ما وصل إليه مشاركًا في هذا التراجع اليسار الإسرائيلي على اختلاف مسمياته، وجاءت الانتفاضة الثانية لتعمق هذا الجدل وتحدد معالم العلاقات البينية داخل المجتمع الإسرائيلي من جهة والعلاقة مع المؤسسة الحاكمة من جهة أخرى، وتبدأ مسيرة تغلغل التيار الديني الصهيوني والحاريدلي في كافة المؤسسات.
لقد شكَّلت الانتفاضة الثانية عام 2000 وانسحاب شارون عام 2005 من قطاع غزة وإخلاء مستوطنات شمال الضفة الغربية ضربة قاسية للصهيونية الدينية ولفكرها المتمثل بالمسيحيانية، واعتبار احتلال الضفة الغربية والقطاع وما تبقى من القدس وجوهرتها المسجد الأقصى عين الخلاصية التوراتية، منابذة بذلك المعتقد الحاريدي الذي يعتقد أن الهيكل يهبط من السماء آخر الزمان، فقد عمدت الصهيونية الدينية إلى تسييس الدين وتديين السياسة ونجم عن ممارسة التيار الحاريدي للسياسة، إلى التأثر بها وعليها لتتخلق داخل المجتمع الإسرائيلي في العشريات الثلاث الأخيرة مجموعات من اليهود المتشددين دينيًا وسياسيًا بعد إذ جمعوا الدين كقومية وكهوية وحالة تعبدية، دفعتهم عبر مجموعات عديدة من الشباب المتحمس إلى نشر أفكارهم خارج جيتواتهم الخاصة، وشهد المجتمع الإسرائيلي منذ مطلع هذا القرن حالة من التمدد الديني ترك آثاره في جنبات المجتمع الإسرائيلي عمومًا. وحتى تحقق اختراقات داخل المكونات العلمانية والتقليدية، فقد عمدت قيادات التيار الديني إلى تجنيد قطاعات مختلفة من المجتمع الإسرائيلي ومن بينهم مجموعات من الأكاديميين والمثقفين وأنشأت مراكز أبحاث تخصصية وأقامت مجموعات داعمة امتدت آثارها إلى المجتمعات اليهودية خارج البلاد، خاصة المجتمعين الأمريكي والكندي. ومن نافلة القول، الإشارة مثلًا إلى دور مركز أبحاث “فورم كاهيلت” العامل من القدس، والذي يلعب الدور الأكبر في السياسات التشريعية الراهنة التي ستفضي إلى تغيرات جذرية في القضاء الإسرائيلي ومن ثم في شكل الدولة. ذلكم أن هذا المركز يعمل وبصراحة على تذويت القيم الليبرالية المتساوقة مع القيم الأمريكية الجمهورانية ذات العلاقة مع الدين وقداسته والهوية المنبثقة عن “الديانة اليهودية” كهوية قومية تدمج اليهودية دينًا وهويةً.
هذا المسار المليء بالتناقضات لم يتوقف يومًا منذ أن قامت إسرائيل وإلى هذه اللحظات، ولكنه شرع يأخذ مسارات أخرى تفضي إلى صدام آجلًا أم عاجلًا مع مختلف المكونات الإسرائيلية، ووفقًا لرؤية “ميخا كودمان” صاحب كتاب (عودة بدون توبة)، يذهب إلى أن أصل المشكلة والخلافات في سياقات التدين والعلمنة تعود إلى البدايات التأسيسية التي أسست للحركة الصهيونية والتي سعت لتخليق اليهودي الجديد المتحرر من أغلال سيادة وسلطة التقاليد اليهودية، حيث اصطدمت منذ اللحظات الأولى بالتوجهات الدينية المُحافظة الرافضة لتمييع اليهودي، وهو ما دفع دعاة اليهودية التقليدية الحاخامية لتعزيز سلطتها داخل المكونات والجماعات اليهودية ومن ثم تعزيز القيم المُحافظة داخل المجتمعات اليهودية، وهذه العملية الارتدادية للحاخامات- خاصة في أوروبا- دفعت مُبكرًا لصدامٍ بين المثقفين والأكاديميين العلمانيين والحاخامات، وامتدت هذه الموجة إلى هذه اللحظات وإن بوتيرة مختلفة.
لقد كان الصدام هائلًا بين قيم الحداثة والأصالة في السياق اليهودي سواء قبل الكارثة اليهودية التي أصَّلت وعمَّقت الفكر العَلماني الإلحادي من جهة، والفكر اللاهوتي الصوفي المسياني من جهة أخرى، وترك هذا الصدام آثارًا كبيرة في المجتمع الإسرائيلي الذي تعرض لأكبر عملية علمنة عبر ما سمي بـ “فرن الصهر” لتكون نتائجه فاشلة مجتمعيًا وإن حققت كتلة قوية داخل النظام والمؤسسات الناظمة للحياة الإسرائيلية-اليهودية برسم وجودها قبل قيام الدولة، ولم تتأثر عمليًا مما تعرض له عموم اليهود في أوروبا إبان الحرب العالمية الثانية، وهذه المجموعات التي لا تزال مهيمنة في عديد مرافق الحياة، يذهب البعض اليوم إلى تسميتها بالدولة العميقة حيث يحاربون بكل ما أوتوا من قوةٍ في هذه الأيام للحفاظ على مكتسباتهم التي تحققت على مدار عقودٍ خلت.
التبرير العلماني لكراهية اليهودية..
تعود مواقف العلمانيين اليهود المتشددة من اليهودية واليهود إلى تأثرهم الهائل بالفكر العلماني الأوروبي وبرسم أنَّ أعدادًا من المفكرين والفلاسفة كانوا من اليهود (اسبينوزا، كارل ماركس، فرويد. للتوسع انظر مثلًا، تأثير اليهودية على الديموقراطية، الجزء الخامس، في كتاب عالم متكامل، أثر اليهودية على الثقافة العالمية، كان سابيرو، ص215-255). هؤلاء اليهود الذين أثروا على الفكر الإنساني لم يعتزوا بيهوديتهم وإن ذهب البعض إلى غير ذلك، إذ تشير المتابعات التاريخية للحركة الصهيونية إلى أن العديد من المفكرين اليهود رفضوا اليهودية الجيتوية، ونادوا بالتحرر والخلاص منها، فعلى سبيل المثال لا الحصر “نتان بيرنبويم” المفكر اليهودي الذي نحت مصطلح الصهيونية، وصف اليهود بأنهم “أصحاب مميزات متدنية فهم وفق قوله “فاقدون للشجاعة وللبراعة والحس الجمالي”. فيما وصف الكاتب “يوسف حاييم بارنر” اليهود بأنهم يجلبون اللعنة على العالم، بل ذهب إلى أن العالم “كان سيكون أفضل من دون اليهود”، ويتضح أنَّ الطلائعيين من الصهاينة ممن استعمروا فلسطين كانوا يخجلون من وصفهم باليهود، بل اعتبره البعض كلمة نابية، وهناك من الصهاينة من استعمل كلمة “يهدون” وهي كلمة تحقير لليهودي، ومن ثم فقد ذهب عدد من الباحثين في التاريخ الفكري والثقافي للحركة الصهيونية في مراحلها المبكرة إلى بروز ألفاظ وخطاب لا سامي من طرف الصهاينة أنفسهم، حتى أن هناك أزمة في التفريق بين الخطاب الصهيوني المعادي لليهود واليهودية والخطاب اللاسامي (انظر على سبيل المثال إلى ي. دورون “الصهيونية الكلاسيكية واللاسامية الحديثة”، المقارنات والتأثير ،1883-1914). ومع ذلك ثمة اتفاق بين الصهاينة المنظرين واللاساميين إلى أن اليهودي مخلوق مريض، وقد كان الفارق بينهما في أن اللاساميين نظروا إلى أن اليهود يعانون من مرض وراثي، فيما رأى الصهاينة إلى أن اليهود يعانون من مرض بيئي، ولذلك ذهب عديد المفكرين والأدباء من الحركة الصهيونية أمثال الأدباء يوسف بارنر وميخا يوسف باردشيفسكي والشاعر شاؤول طشرنخوفسكي، أن الصهيونية قبل أن تكون مشروعًا سياسيًا هي في جوهرها مشروع علاجي، فهدفها إنشاء اليهودي الجديد أكبر من إقامة دولة جديدة (انظر ميخا كودمان، عودة من دون توبة، ص27).
ويبرر العلمانيون كراهيتهم لليهودي المتدين أنه خضع بالمطلق للحاكم الجوي مما جعله خانعًا، وخضع لسيطرة الحاخامات ونفوذهم وهو ما جعله مستعبدًا بين يدي هؤلاء الحاخامات، والصهيونية بدورها، راهنت على تنظيفه وتطهيره من هذين الوبائين، وباء الخنوع ووباء الاستعباد. ولذلك تتعزز المخاوف لدى اليهود العلماني المُعاصر من حدوث ردة بين اليهود تعيدهم إلى مربعات الاستخذاء والعبودية بعد أن نجحت الصهيونية في بنائه من جديد. هذه المخاوف يستشهدون عليها في الأوقات الراهنة بما يصدر من فتاوى وتصريحات من حاخامات وقيادات دينية من المعسكرات اليهودية الدينية والحاريدية خاصة في مسائل الحريات ومسائل التبعية للحاخام وتنفيذ تعاليمه وفتاويه.