لقاء ( بيت – جن) له ما بعده
الشيخ رائد صلاح
هناك على سلسلة من قمم جبل الجرمق تقع بلدة (بيت – جن)، وهي بلدة يقطن فيها الأهل الدروز من بني معروف فقط، وقد شهدت خلال السنوات الماضية نهضة عمرانية وتعليمية وثقافية، ومع ذلك لا تزال تعاني من ضيق مساحة نفوذها مما يخنق طموحها الواعد، وتعاني كذلك من التضييق على حاجتها للبناء بعامة، ولبناء ما يحتاجه الشباب من مساكن تحضن حاضرهم ومستقبلهم، وهذا يعني أنها ستواصل المعاناة في سعيها لبناء المحلات التجارية وإقامة المناطق الصناعية، ومع ذلك فستبقى بلدة (بيت – جن) امتدادا لكل بلداتنا في الداخل الفلسطيني بداية من الجليل ثمَّ الكرمل ثمَّ المثلث والنقب والمدن الساحلية عكا وحيفا ويافا واللد والرملة، وسيبقى أهل (بيت – جن) هم أهلنا، وهم جزء لا يتجزأ من كل أهلنا في الداخل الفلسطيني، وهم جزء لا يتجزأ من دائرتنا العروبية الفلسطينية، وهم جزء لا يتجزأ من ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا.
ولمن لا يعلم فإن بلدة (بيت – جن) هي بلدة خلّابة الجمال، ويوم أن يصعد إليها أي منا بداية من مدخل بلدة (الرامة) ويبدأ بالارتفاع رويدا رويدا مع حركة هذا الصعود، يشعر بعد برهة من الزمن كأنه في طائرة وليس في سيارة، وكأنه ينظر إلى بلدات الشاغور من نافذة الطائرة وليس من نافذة السيارة، ثمَّ يشعر كأن هذه الطائرة قد حلقت به فوق الغيوم، ثمَّ يوم أن يدخل إلى بلدة (بيت – جن) بسلام، يصدمه منظر طبيعي لا يُصدق، فها هو قد بات في قمة هذه السلسة الجبلية الجرمقية، ولكن سبحان الله تعالى ها هو سهل رحب يمتدُّ بين قمم هذه السلسلة الجبلية الجرمقية، وكأنه الكف الحانية الواسعة التي لا تزال تحمل بيوت الأهل في بلدة (بيت – جن) ووسط هذه البيوت قد انتشرت أشجار التفاح والكرز والجرنك، وتحت هذا السهل الرَّحب هناك كنز مدفون محفوظ، إّنه هبة الزابود وأحرار الزابود، إنه هبّة الأرض فوق الأرض للحفاظ على الأرض، فكانت تلك الهبة.
وحفظ أهلنا في بلدة (بيت – جن) أرضهم، وحفظوا الحدائق الغنّاء والغابات الخضراء والطيور الغنّاء، التي لا تزال تكسو سلاسل جبالهم الجرمقية بجمال يخطف الأبصار ويسرُّ النّاظرين، وأنا على يقين أنَّ أي واحد من كل أهلنا في الداخل الفلسطيني إن زار بلدة (بيت – جن) سيكتشف أنّه ليس بحاجة أن يبحث عن بديع صنع الباري في جبال الألب، ولا في سلسلة الجبال المحاذية لبحيرة (كومو) الإيطالية، ولا على ضفاف البندقية، ولا على شواطئ البحر الأدرياتيكي والريفيرا ومنتجعات الفلبين وغيرها، فها هي هذه السلاسل الجبلية الجرمقية التي تحيط ببلدة (بيت – جن) تحمل كل هذا الجمال الرباني وزيادة.
وهناك وسط وداعة ذاك الجو الوادع الذي يخيم على بلدة (بيت – جن) هناك المضافة الكريمة والضيافة المبتسمة للشيخ أبو صياح كنج عزه، وتحت سقف تلك المضافة الواسعة استقبلنا الشيخ أبو صياح مع لفيف من مشايخ الطائفية الدرزية المعروفية، وأعضاء لجنة المبادرة الدرزية ونخبة من القيادات السياسية والثقافية والناشطين الاجتماعين من الأهل من الدروز المعروفيين وغيرهم، وكان بعضهم من (بيت – جن) والبعض من شفا – عمرو، والبعض من عسفيا ودالية الكرمل، والبعض من يركا وكفر سميع وعيلبون، وفي المقابل ضمَّ وفدنا الإدارة العامة للجان إفشاء السلام وبعض رجال الإصلاح والناشطين الاجتماعيين والسياسيين من طمرة ونحف وأبو سنان والبعنة، وكان من المفروض أن يشاركنا ذاك اللقاء الأستاذ محمد بركة (أبو السعيد) رئيس لجنة المتابعة العليا لولا عذر طارئ اصطدم به ومنعه من الحضور، وفي ذاك اللقاء تحدث مضيفنا الشيخ أبو صياح وأجاد وأكد ضرورة أن يخرج عن ذاك اللقاء خطوات عملية تدفع باتجاه تواصل هذه اللقاءات، وتواصل التعاون تحت سقف لجان إفشاء السلام بهدف السير بمجمعتنا كل مجتمعنا في الداخل الفلسطيني نحو شاطئ الأمن والأمان.
وأكد بوضوح أن المرجعيات الدرزية ستبارك هذا اللقاء وما بعده، وستبارك التعاون القادم وما بعده، ممّا يعني أنَّ هذا اللقاء يجسد خطوة تاريخية غير مسبوقة تدفع باتجاه جانب من واجب الوقت الملقى على عاتق الأهل المسلمين والمسيحيين والدروز في الداخل الفلسطيني ألا وهو مناهضة العنف.
ثمَّ تكلّم رئيس مجلس محلي (بيت – جن) السيد راضي نجم، ورحَّب بنا بكلمات دافئة ثمَّ أكد دعمه الكامل لهذا اللقاء ورسالة هذا اللقاء وما بعده، وأكد بصراحة لا غموض فيها، أنَّ مما تعانيه كل بلدة من بلداتنا في الداخل الفلسطيني سواء كانت (بيت – جن) أو أم الفحم أو الناصرة أو غيرها، هو ضيق مساحة نفوذ بلداتنا وضيق مسطح البناء فيها وأزمة سكن الأزواج الشابة بسبب صعوبة الحصول على موافقات للبناء من لجان التنظيم، ولذلك دعا في ختام كلامه إلى ضرورة أن تتعاون كل بلداتنا في الداخل الفلسطيني لحل هذه المعضلات التي باتت تضيق الخناق على حاضرنا وعلى مستقبلنا.
ثمَّ تحدّث الشيخ غالب سيف رئيس لجنة المبادرة الدرزية وأكد بكلمات واضحة لا ريب فيها انهم سينتدبون ثلاثة من القيادات الدرزية المعروفية حتى يكونوا أعضاء ثابتين في الإدارة العامة للجان افشاء السلام، وهذا يعني أنَّ الشيخ غالب سيف دفع باتجاه خطوة عملية جادة إلى الأمام لها ما بعدها.
ثمَّ تحدّث لفيف من الأهل الحضور، كان فيهم من الأهل المسلمين والمسيحيين والدروز، وكان فيهم السياسي والشاعر والناشط الاجتماعي والقائد الديني، وكلهم أجادوا في قولهم، وكلهم أكدوا ضرورة تعاون كل مجتمعنا في الداخل الفلسطيني تحت سقف لجان إفشاء السلام لإنقاذ مجتمعنا من فاجعة العنف وويلاته.
ومما لفت انتباهي جملة فصيحة بليغة قالها أحد مشايخ الاهل الدروز، حيث قال بلا تلعثم، إن سلسلة جبال بلدة (بيت – جن) عالية والأعلى منها هم ضيوف هذا الوفد الذي حلَّ على (بيت – جن) ثم أكرمتني إدارة لجان افشاء السلام وتكلمت باسمهم، وبيّنت ماهية لجان إفشاء السلام، وماهية استراتيجية عملها، وأكدتُ أنها ليست ملكا لشخص، وليست تابعة لحزب ولا لحركة بل هي من ضمن هيئات لجنة المتابعة العليا وتعمل تحت سقفها، ودعوتُ كل الحضور أن نحسن استثمار هذا اللقاء حتى يكون له ما بعده، وقلتُ لكل الحضور نحن مطالبون الآن لإقامة لجنة إفشاء سلام محلية ولجنة إفشاء سلام نسائية ولجنة إفشاء سلام شبابية، ولجنة إفشاء سلام طلابية في كل مدرسة في كل بلدة من بلداتنا سواء كانت (بيت – جن) أو (يركا) أو (سخنين) أو (معليا) أو (الناصرة) أو (أم الفحم) أو (كفر قاسم) أو (رهط) أو غيرها من سائر بلداتنا، حتى يتحوّل مشروع لجان إفشاء السلام إلى سفينة نجاة تقود مجتمعنا إلى برّ الأمان.