الإسراء والمعراج… ذكرى بطعم الفرج
الشيخ كمال خطيب
نحن في رحاب الليلة المباركة ليلة الإسراء والمعراج، ليلة التقت فيها الأرض بالسماء، ليلة فيها وصل الحبيب محمد ﷺ إلى حيث لم يصل من قبله إنس ولا جن ولا ملك {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىٰ} آية 8-10 سورة النجم. إنه الوصول إلى قرب عرش الله جل جلاله، وقد وصف ذلك أحمد شوقي لما قال:
حتى بلغت سماء لا يطار لها على جناح ولا يسعى على قدم
وقيل كل نبي عند رتبته ويا محمد هذا العرش فاستلم
آية واحدة في كتاب الله تعالى تختصر أعظم مرحلة في التاريخ زمانًا ومكانًا {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} آية 1 سورة الإسراء.
وكيف لا تكون أقصر رحلة زمانًا ورسول الله ﷺ قد بدأها بأمر ربه وأنهاها وما يزال فراشه دافئًا. وكيف لا تكون أبعد رحلة مكانًا وهي التي امتدت من مكة المكرمة إلى القدس الشريف إلى السماوات العلى ثم العودة.
في كل عام لمّا تمر بالأمة ذكرى الإسراء والمعراج ليلة 27 رجب، فلعلنا نعود ونكرر بعض المعاني والعظات المستفادة من هذه المعجزة والكرامة الربانية من الله جل جلاله لرسوله ﷺ، ولن نملّ من التكرار والتأكيد، لا بل إننا في كل عام ومع كل ذكرى، فإننا نستشعر أننا أحوج ما نكون إلى الدروس المستفادة لعلنا بذلك نكون أقرب إلى فرج الله للأمة كما كان فرجه لرسوله ﷺ بعد عام الحزن الذي مرّ به بعد وفاة زوجته الفاضلة أمنا خديجة رضي الله عنها ووفاة عمه أبي طالب الذي كان سنده والمدافع عنه، ثم بعد رحلة الطائف وما لاقى فيها رسول الله ﷺ من صدود وقسوة بني ثقيف بحقه صلوات ربي وسلامه عليه.
ها هي ذكرى الإسراء والمعراج تعود علينا والأمة كلها تعيش حالة حزن ما تزال تمتد منذ عقود، لا بل إنها لأكثر من قرن من الزمان من يوم أن سقطت الخلافة الإسلامية عام 1923. ولكن حالة الحزن هذه فإنها التي تغمرنا بفيض آلام وفيض دموع منذ ليلة الإثنين 6/2/2023، منذ الساعة 3:17 فجرًا، ساعة زلزلت الأرض زلزالها في المنطقة الممتدة بين جنوب تركيا وشمال سوريا، حيث كان الزلزال المهول الذي أجهز على عشرات الآلاف من أهلنا في تركيا وسوريا، وشرّد مئات الآلاف بل الملايين منهم، ودمرّ المدن والقرى حيث الأمة ما تزال تعيش حالة حزن على ما حلّ بإخوة لنا هناك.
وليس أن تركيا حزينة فقط ولا أن سوريا حزينة، بل مفجوعة منذ اثنتي عشرة سنة من يوم أن رفع أبناؤها أصواتهم ضد الظلم والقهر مطالبين بالحرية والكرامة، فكان جزاؤهم القتل بالبراميل وبالكيماوي وبالتشريد والتهجير. وليس أنها تركيا حزينة وسوريا مفجوعة، وإنما هي فلسطين ما تزال يلفها الحزن بفعل الاحتلال الإسرائيلي الغاشم الظالم واستهدافه للإنسان وللمقدسات وللتاريخ والجغرافيا، للشجر والحجر ولكل شيء فيها، في قدسها وغزتها وضفتها وجليلها ونقبها وساحلها. ومثل تركيا وسوريا وفلسطين، فإنها مصر والعراق والسودان واليمن وليبيا وتونس، بل وكل أرجاء الوطن العربي والإسلامي حيث لكل قصته وجرحه ومأساته، وحيث كل هؤلاء يقولون ما قال رسول الله ﷺ: “اللهم إليك نشكو ضعف قوتنا وقلة حيلتنا وهواننا على الناس، أنت رب المستضعفين وربنا، إلى من تكلنا إلى بعيد يتجهمنا أم إلى عدو وكلته أمرنا، إن لم يكن بك علينا غضب فلا نبالي، لكن رحمتك أوسع لنا، نعوذ بنور وجهك الذي أضاءت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بنا غضبك أو يحل علينا سخطك، لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك”.
ولأن المحطة الأولى في ليلة الإسراء والمعراج في الرحلة المباركة كانت في المسجد الأقصى المبارك في القدس الشريف، حيث كان الجمع بين الشقيقين المسجد الحرام والمسجد الأقصى قبل أن يكون لهما شقيق ثالث هو المسجد النبوي في المدينة المنورة الذي لم يكن رسول الله ﷺ قد هاجر إليها بعد ولم يبنِ فيها مسجده الشريف، فكان شقيقًا ثالثًا للمسجد الحرام والمسجد الأقصى حيث إلى ثلاثتهم تشد الرحال.
إنه المسجد الأقصى المبارك إذن ما يزال يئن تحت نير الاحتلال وهو يتجرع ألم ومرارة التدنيس والتهويد والمشاريع السوداء لهدمه وبناء هيكل مزعوم على أنقاضه. ويزيد هذا الألم والحزن مع وجود حكومة هي الأكثر تدينًا وعنصرية، وهي الأكثر تطرفًا واستهدافًا للمسجد الأقصى المبارك، بينما يقابلها من طرف الأمة حكومات مأجورة وحكام عشقوا الذل ورضوا بأن يكونوا سوطًا بيد العدو يلهبون ظهور شعوبهم ليعيش المسجد الأقصى المبارك هذه الآلام وهذه الأحزان والتي وصفها الشاعر بقوله:
ويا قلب أسعر نار وجدك كلما خبت بادّكار يبعث الحسرات
على المسجد الأقصى الذي جل قدره على موطن الإخبات والصلوات
لتبك على القدس البلاد بأسرها وتعلن بالأحزان والترحات
لتبك عليها مكة فهي أختها وتشكو الذي لاقت إلى عرفات
وكيف لا تبكي عليها أختها وشقيقتها الكبرى مكة وهي مثلها مفجوعة محزونة حيث إسرائيليون يزرعون أشجارًا يوم 8/2/2023 في حديقة في مدينة بيت شيمش غربي القدس والتي يُعرف أهلها بأنهم من غلاة المتدينين اليهود أسموها باسم حاكم مكة والمدينة محمد بن سلمان آل سعود تقديرًا له ولدوره في التقارب مع إسرائيل وفي نفس الوقت لدوره في إبعاد شعب بلاد الحرمين عن دينه. أليس هذا يجعل مكة تبكي والقدس تبكي، وتجعل المسجد الحرام حزينًا والمسجد الأقصى مكلومًا؟! لكن عزاءنا وعزاء المسجد الأقصى المبارك أنه قد سبق ووقع تحت نير احتلال صليبي غاشم جثم على صدره مدة تسعين عامًا فيه منع رفع الآذان على مآذنه، بل نُصبت الصلبان بدل الأهلّة على قبابه، وشُربت الخمور في ساحاته بل على منبره. وحول المسجد الأقصى المبارك كان حكام عرب ومسلمون إما أصحاب عقيدة فاسدة كحال الفاطميين في مصر، أو الأمراء العملاء للصليبيين أمثال حكام دمشق وحلب يومها ممن تواطؤوا مع الظالم المدنس للأقصى، لكن هذا الحال لم يدم ولم يطل وقد هيأ الله تعالى للأمة من ينتصر لمسجدها الأقصى ويزيل عنه دنس ورجس الاحتلال الصليبي إلى الأبد.
وبنفس مسيرة الانتصار للمسجد الأقصى المبارك يومها فإنها مسيرة الانتصار له في أيامنا هذه بيقين أن الله سبحانه سيهيئ للمسجد الأقصى من يكنس عنه ومنه الاحتلال الصهيوني ويطهّره من رجس هذا الاحتلال. نعم إننا نقول أن هذا سيكون بإذن الله، ولكننا لا نقولها تعليقًا ورجاء ضعيفًا، وإنما نقولها تحقيقًا ويقينًا وثقة لا تتزعزع أنه وكما طُهّر المسجد الأقصى من الاحتلال الصليبي فإنه سيطهر من الاحتلال الصهيوني.
ها نحن إذن في رحاب ليلة الإسراء والمعراج ليلة 27 رجب، الليلة التي أسري فيها برسول الله ﷺ من مكة إلى القدس إلى السماوات العلى. يشاء الله تعالى أن تكون ليلة الإسراء والمعراج هي نفس الليلة التي دخل فيها أحفاد محمد ﷺ القدس الشريف بقيادة الفاتح صلاح الدين رحمه الله ويطهّرها من دنس الاحتلال الصليبي. ولن نمل أبدًا إذا بقينا نذكر قصة الخطيب ابن الزكي الدمشقي الذي اختاره الفاتح صلاح الدين ليكون هو خطيب جمعة الفتح، الخطبة الأولى في المسجد الأقصى بعد تطهيره من الصليبيين رغم أن خطباء وعلماء أجلاء كثيرين كانوا في حاشية ومن بطانة صلاح الدين، لكن اختيار صلاح الدين قد وقع على ابن الزكي لأنه سبق وقبل أربع سنوات من فتح القدس كان فتح حلب وتطهيرها من أميرها الصالح إسماعيل الفاسد المتعاون مع الصليبيين، ويوم فتح حلب كان ابن الزكي قد نظم قصيدة قال في أحد أبياتها:
وفتحكم حلبًا بالسيف في صفر مبشر بافتتاح القدس في رجب
وقد أجرى الله الخير على لسان ابن الزكي فكان فتح القدس في رجب وفي ليلة السابع والعشرين منه أي ليلة الإسراء والمعراج، فكانت مكافأة صلاح الدين له أن يعتلي المنبر الذي كان نور الدين زنكي رحمه الله قد أمر ببنائه ليكون هدية الفتح للمسجد الأقصى. وقدر الله أن لا يحتفل بالفتح نور الدين ولا ابنه عماد الدين وإنما كان الفاتح صلاح الدين الأيوبي هو من أتم ما بدأه نور الدين وعماد الدين ففتح القدس وحرر المسجد الأقصى وقدم له المنبر هدية، وكان أول من اعتلى ذلك المنبر ليس إلا الخطيب ابن الزكي الدمشقي.
إنه صلاح الدين الأيوبي الذي أوصى أن يدفن معه في قبره كيس فيه جمع الغبار الذي كان يعلق على ثيابه بعد كل جولة قتال، فكان يجمع هذا الغبار فيضعه في كيس أوصى أن يدفن معه، فلما سئل عن السبب قال: إذا جاء الملكان يسألانني في القبر من ربي وما ديني ومن نبيي فيريان ذلك الكيس فيسألانني فأقول لهما: هذا غبار الجهاد في سبيل الله. لا بل إنه قد أوصى أن يُدفن معه كذلك سيفه الذي كان به يقاتل أعداء الله وقد قال قاضيه القاضي الفاضل: هذا السيف عليه يتوكأ إلى الجنة.
كان الدعاء من رسول الله ﷺ بعد رحلة الطائف وقبيل الإسراء والمعراج قوله: “اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس…..”. فكان إكرام الله له بكرامة الإسراء والمعراج.
وكان الدعاء من صلاح الدين الأيوبي قبيل فتح القدس وتطهيرها من الصليبيين وبعد الإعداد اللازم للفتح، لكن السلاح الأمضى كان هو الدعاء، فكان يُسمع عنه في سجوده يقول: “إلهي قد انقطعت أسبابي الأرضية في نصرة دينك ولم يبق إلا الإخلاد إليك والاعتصام بحبلك والاعتماد على فضلك، أنت حسبي ونعم الوكيل”، فكان إكرام الله له بالفتح والتحرير.
ما أحوج الأمة في هذا الزمان وقد عاد الاحتلال الصهيوني ليجثم على المسجد الأقصى بعد أن طهّره صلاح الدين، فما أحوجنا لأن ندعو الله بأن يمنّ على الأمة بفاتح جديد.
اللهم قد أصبحت أهواؤنا شيعًا فامنن علينا براع أنت ترضاه
راع يعيد إلى الإسلام سيرته يرعى بنيه وعين الله ترعاه
ونحن في ذكرى الإسراء والمعراج، فإنه يقين لا ريب فيه أن الله تعالى سيكرم الأمة براع وقائد وبطل من أبنائها يعيد للإسلام سيرته وللأقصى حريته وللأمة كرامتها. ما أكثرها إرهاصات الفتح والفرج والتحرير، يراها كل صاحب بصيرة ولكنها تخفى على من عميت بصيرتهم وانحرفت بوصلتهم وتشوهت هويتهم {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ ۚ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ وَعْدَ اللَّهِ ۖ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} آية 4-6 سورة الروم.
يا رب يسر قائدًا لا ينثني ويكون في يمنى يديه المخرج
يعدو بخيل عاديات جرّبت فخيول من سبقوه كانت تعرج
مهما تطل أيام ظلم عدوّنا مهما بدا أن المسالك ترتج
فبلادنا بالفاتحين خصيبة وستنبت البطل الجسور وتنتج
نحن إلى الفرج أقرب فأبشروا
رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة.
والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.