الانتماء
الشيخ رائد صلاح
الانتماء هو أحد الأصول المنشودة المفقودة في مسيرة حياة مجتمعنا في الداخل الفلسطيني، ولأنَّ الحياة لا تحتمل الفراغ، فلمّا اختفى الانتماء لم يبق مكانه فارغا، بل حلَّ مكانه أكثر من منافس بديل، وكلها سلبية بدون استثناء!! فلقد حل مكان الانتماء القطيعة، وبات ذلك واضحًا في سلوكيات الكثير منّا في هذه الأيام على صعيد الكبار والصغار، فهذا الفتى الذي يسعد عندما يتلف شارة المرور في إحدى بلداتنا، أو عندما يحطم طقم ألعاب في متنزّه عام في إحدى بلداتنا، أو عندما يقلع الأشجار والأزهار التي قامت بزراعتها إحدى سلطاتنا المحلية العربية زينة لإحدى بلداتنا وأنفقت عليها المال الكثير، أو عندما يحرق مقاعد خشبية جميلة ومريحة وضعتها إحدى سلطاتنا المحلية العربية بشق الأنفس في المواقع العامّة في إحدى بلداتنا.
هذا الفتى المشاغب لو كان عنده أصل (الانتماء) إلى مجتمعنا لحرص على صيانة هذا المجتمع ولحرص على صيانة ممتلكات هذا المجتمع العامة كما يحرص على صيانة كل ممتلكات بيته، ولكنه لما بات بلا أصل (الانتماء)، حلّ في داخله وباء القطيعة المدمر كبديل عن الفراغ الذي أحدثه غياب أصل (الانتماء)، فبات يهون عليه أن يُتلف ويحطم ويقلع ويحرق كل ما تقع يده عليه من ممتلكات مجتمعنا وهو في غاية السعادة مع شديد الأسف!! وكأنه قد حقق ذاته واستعرض فتوته وفتل عضلاته المراهقة وهو فاقد لأصل (الانتماء)، فكان سلوكه الأهوج، وكان هذا السلوك الأهوج على حساب مجتمعنا الذي وُلد فيه، ونما فيه، حتى أصبح الفتى الذي يشار إليه بالبنان،!! وإذا ما ظل هكذا حاله، فهو مرشح أن يتفاقم حاله، وأن يستفحل وباء القطيعة في داخله كلَّما تقدم به العمر، وقد يلحق بركب العنف- مع شديد الأسف- غير آسف على المضار التي سيلحقها بمجتمعنا إذا ما سوَّلت له نفسه أن يغرق في السوق السوداء والربا الأسود والخاوة وفوضى السلاح الأعمى والمخدرات.
وكيف يتأسف؟! وهو لا يشعر بأصل (الانتماء) إلى مجتمعنا، فهو يرى نفسه عالما قائما بذاته ومستقلا عن مجتمعنا، وكأنه شيء ومجتمعنا شيء آخر، وكأنه عالم ومجتمعنا عالم آخر، وكأنه ذو قيم خاصّة لا تمُّت بصلة إلى قيم مجتمعنا!! وهذا يعني عندما ندرس هذه الظاهرة المؤلمة المقلقة أنَّ هذا الفتى مصاب بوباء اسمه القطيعة، ومصاب بظهور أعراض هذا الوباء السلبية المضرة على سلوكه،!! فكيف نعالج هذه الظاهرة المؤلمة المقلقة؟!
هل نكتفي بعلاج أعراض هذا الوباء فقط مع الإبقاء على هذا الوباء في فكر وسلوك هذا الفتى المشاغب، وعندها سنضيع وقتنا عبثا، ونهدر طاقتنا سدى، كمن يحرث في بحر، أم أنَّ المطلوب هو علاج هذا الوباء نفسه، وتخليص هذا الفتى المشاغب من هذا الوباء، وغرس أصل (الانتماء) الى مجتمعنا في فكره وسلوكه؟! هذا الخيار الثاني هو ما حثَّ عليه د. أحمد فياض في سلسلة مقالات له- نشرتها صحيفة المدينة مشكورة- اجتهد فيها أن يتقدم برؤية عملية تسهم بمناهضة آفة العنف التي انُتكبنا بها من الجذور!! وقد صدق في ذلك وأجاد، وهو يتوافق بذلك مع إستراتيجية عمل لجان إفشاء السلام التي تقوم على خطواتها الثلاث: الوقائية والعلاجية والردعية، والتي تهدف من ورائها إلى إفشاء ثقافة السلام، وصناعة الحياة القائمة على افشاء ثقافة السلام، مدركة سلفا أن أصل (الانتماء) هو من أهم أصول هذه الثقافة المجتمعية الضرورية التي باتت ضرورية في مسيرة مجتمعنا أشدّ من حاجته للطعام والشراب واللباس والمسكن والبنية التحتية، فقد يعيش مجتمعنا مع قليل من الطعام والشراب وقد يعيش مع اللباس المتواضع، وقد يعيش مع المسكن الصغير والبنية التحتية الأساس، ولكنه لن يعيش سويا ولن يمشي سويا على صراط مستقيم بلا أصل (الانتماء).
وهذا المشهد الذي جرَّعنا الحسرة بسبب مأساة هذا الفتى المشاغب، وهو ما بات يصدمنا في مشهد الطالب المشاغب الذي بات يسعد عندما يُتلف أكبر قدر من ممتلكات مدرسته!! وفي مشهد السائق المشاغب الذي لا يتردد أن يركن سيارته في المكان الخطأ والزمان الخطأ والظرف الخطأ، ويُحدث بذلك بلبلة وفوضى وإزعاجا لا حدود لها!!
وفي مشهد العامل الكادح الذي يعمل في إحدى المدن العبرية فيأبى أن يرمي بمخلفات عمله في تلك المدينة أو في أحد أوديتها، بل يحتفظ بكل تلك المخلفات حتى يعود الى بلدته، ثمَّ يرمي تلك المخلفات قرب أحد شوارع تلك البلدة، أو قرب أحد المتنزهات العامة فيها، أو قرب إحدى قاعات الأعراس فيها!! ثمَّ يعود هذا المشهد المأساوي على نفسه في مشهد تلك الأم التي تحرص على نظافة بيتها وتأبى أن يعكر هذه النظافة المثالية ذرة تراب، ولكنها لا تتردد أن ترمي قمامة بيتها خارج بيتها، لدرجة أنها قد ترميها في الشارع العام المحاذي لبيتها، ولا تتردد أن تصب الماء الذي مسحت به بيتها أو جلت به أدوات طعامها خارج بيتها، حتى لو سار نهرا عابرا لكل شوارع حارتها!!
والمشاهد المبكية المضحكة أكثر من ذلك بكثير!! لماذا كل ذلك؟! لأننا كما قال د. أحمد فياض فقدنا أصل (الانتماء)، وحلَّ محله القطيعة!! علمًا أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال لنا من ضمن قال: (ليس منّا من لم يرحم صغيرنا ولم يوقِّر كبيرنا)، وقال لنا صلى الله عليه وسلم: (مَن بات ولم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم)، وقال لنا صلى الله عليه وسلم: (مَن غشنا فليس منا)، وفي رواية أخرى (من غشَّ فليس منّا) وهذا يعني وفق هذه الأحاديث النبوية الشريفة، أنَّ مَن لم يرحم صغيرنا ولم يوقر كبيرنا فليس منا، أي أنه فقد أصل (الانتماء) إلى مجتمعنا، ومن بات ولم يهتم بهمومنا المصيرية الجماعية فليس منا، أي أنه فقد أصل (الانتماء) الى مجتمعنا، ومن غشنا أو غش غيرنا فليس منّا، أي أنَّه فقد أصل (الانتماء) الى مجتمعنا، وهذا يعني (الانتماء) هو حياة وهو سلوك وهو قيم، وليس مجرد شعار نتغنى به!! وهذا يعني أن العنف ما باض فينا وفقس، إلا بعد أن فقدنا أصل (الانتماء) في سلوكنا المجتمعي بعامة!! والمطلوب أن نتدارك أنفسنا، ولن يتحقق ذلك إلا بإفشاء ثقافة (الانتماء) التي هي جزء لا يتجزأ من ثقافة إفشاء السلام في مسيرة لجان إفشاء السلام المنبثقة عن لجنة المتابعة العليا.