ما أبعد السَّطحية عن الإستراتيجية
الشيخ رائد صلاح
من أخطر الآفات التي قد تعصف بمجتمعنا التفكير السطحي والرؤية القصيرة والتَّوقعات الوهمية، ولذلك كم حزنت وتألمت في نفس الوقت عندما قرأت بعض التعقيبات القليلة جدا على نهج عمل لجان إفشاء السلام، وهي هذه التعقيبات القليلة التي راحت تتساءل غامزة وساخرة وهامزة: أين ثمار لجان إفشاء السلام، فها هي تعمل منذ بضعة أشهر على كبح جماح العنف، ولا يزال عدد ضحايا مجتمعنا الذين تخطفهم يد العنف يزيد على المائة ضحية!!
قرأت هذه التعقيبات القليلة التي ترشح بهذا التسطيح وقلت في نفسي مشفقًا على أقلام أصحابها: مساكين هؤلاء الذين التقوا على هذه التعقيبات القليلة وتواصوا عليها، ليتهم يعلمون أنَّ لجان إفشاء السلام هي مشروع مستديم طويل المدى سيحتاج من القائمين عليه سنوات طوال قد تزيد على العشر سنوات حتى تثبت أصول هذا المشروع وتنمو وتنتصب في وجه العواصف المفتعلة التي تسعى إلى اقتلاعه وهو في مهده، لا سيَّما وهو يواجه ركام أكثر من عشرين عامًا مضت باض فيها العنف وفقس ثم باض وفقس ثمَّ باض وفقس… وهكذا حتى استفحل خطره وتحوَّل من مجرد حدث عابر إلى جائحة عمياء بكماء صماء لا ترحم صغيرا ولا تُوقِّر كبيرا وتخبط ضاربة الآباء والأمهات والأبناء والبيوت والمدارس وسائر مؤسسات مجتمعنا، لدرجة أنَّها ما تركت واحدا منَّا إلا لطمته لطمة.
وكلما قيل انقضت تمادت، ولدرجة أنَّها تحاول أن تفرض نفسها كثقافة مشروعة حتى يتقبلها مجتمعنا ويتوافق معها ويتعايش معها، وكأنها ظاهرة مباحة أو مسكوت عنها في أحسن الأحوال، وفي ذلك الخطر القاتل المصيري الذي يهدِّد كل فرد في مجتمعنا، ممّا يجعلني أقول بلا تردد: إنَّ الساكت منَّا عن هذه الجائحة المرضية المعدية هو شيطان أخرس، وهو خائن لله ورسله، وهو خائن لنفسه ومجتمعه، وهو خائن لبيته وأسرته وأبنائه وأحفاده وسائر ذريته، وهو خائن لشعبه حاضرًا ومستقبلًا.
ولذلك لا بد من مواجهة مشروع العنف وثقافة إفشاء العنف بمشروع إفشاء السلام وثقافة إفشاء السلام، طامعين أن يتغلب مشروع إفشاء السلام على مشروع العنف، وأن تتغلب ثقافة إفشاء السلام على ثقافة إفشاء العنف، مما يعني أن تتغلب صناعة الحياة القائمة على إفشاء السلام في مسيرة مجتمعنا على صناعة الحياة القائمة على إفشاء العنف، الساعية إلى تفكيك مجتمعنا وتفريغه من محتواه وإجهاض كل طاقاته وقدراته، وتحويله إلى مجرد تجمع أفراد متنافرين متحاقدين لا همَّ يجمعهم، ولا ألم يوحدهم، ولا أمل يرصُّ صفوفهم، وكأنهم باتوا كقطيع خراف يذبحه الجزار خروفا بعد خروف، وسائر القطيع صامت يتلهى باجترار شعيره ومضغ عشبه وشرب مائه وإن كان آسنا، وكأنهم أضحوا في حال هجين غريب عجيب لم يعرفه التاريخ قبل ذلك، ولم يشهد له الحاضر اليوم مثيلا، ولن يلد المستقبل وليدا معوقا كمأساة إعاقته، وكأنهم سقطوا في كل فتنة، وفي كل امتحان، وفي كل صدمة، وكأنهم باتوا بلا قيم دينية تهذبهم، وبلا قيم سياسية ترشدهم، وبلا قيم اجتماعية تحفزهم. ولأننا لا نرضى لمجتمعنا أن يتردى كالنطيحة أو أن يسير مكبًّا على وجهه أو أن يعلن الإفلاس فقد قامت لجان إفشاء السلام وهي تدرك سلفا أنَّ الطريق طويل وشاق وشائك ومتعرج وملتو ويحمل المفاجآت، ومع ذلك سرنا في هذا الطريق رغم قلة السالكين فيه، ورغم ما يتغشاه من عتمة في الليل وضباب في النهار، ووحشة لا تنفد، متوكلين على الله تعالى، ومصممين أن نبذر بذور مشروع إفشاء السلام، وبذور صناعة ثقافته، وبذور صناعة الحياة الموصولة بثقافته، ونحن ندرك أننا نبذر اليوم وقد نحصد ثمار بذارنا بعد أكثر من عشر سنوات أو لن نرى هذه الثمار أصلا، بل سيراه جيل قادم سيرث دورنا بعد أن ننتقل إلى رحمة الله تعالى.
ولذلك أنا شخصيا أحيّي كثير من الأقلام المبصرة الحكيمة التي تدرك ماهية مشروع لجان إفشاء السلام، وكانت ولا تزال تكتب المقالات الفكرية العميقة الموزونة الداعمة لنا، فهذا قلم د. أحمد فياض السّيال، وهذا قلم الإعلامي أحمد حازم المبدع، وهذا قلم الباحث ساهر غزاوي الثري، فهي من ضمن الأقلام الحكيمة والأصوات الواعية التي لا تزال تقول لنا: امضوا على بركة الله تعالى ولا تترددوا، فأنتم تؤسسون لأهم مشروع يفتقر إليه اليوم وغدا وبعد غد مجتمعنا في الداخل الفلسطيني. وعليه فإنني أؤكد النصيحة التي قالها لنا ذات يوم المهاتير محمد مؤسس النهضة الحديثة في ماليزيا عندما اجتمعنا به في مكتبه في كوالالمبور عاصمة ماليزيا، فقال لنا بحرقة وألم: إن ما ينقص الأمة الإسلامية والعالم العربي اليوم هو تبني الخطط بعيدة المدى التي قد يستغرق تأسيسها وإرساء أصولها عشرات السنوات قبل أن تخرج إلى النور ثمارها. وكم صدق في ذلك، فإنَّ الذي يُرسي أساسا لبناء مسكن من طابق واحد ليس كمن يرسي أساسا لبناء مسكن من خمسين طابقا، حيث أنَّ الذي يرسي أساسا لبناء مسكن من طابق واحد سينجز إرساء الأساس في يوم واحد، ثمَّ سينجز بناء المسكن ذي الطابق الواحد في أقل من شهر، أمَّا الذي يرسي أساسا لبناء مسكن من خمسين طابقا، فإنه يحتاج الى سنين طويلة حتى يُحكم إرساء الأساس ثمَّ بناء مسكن ذي خمسين طابقا، وسيحتاج إلى نفس طويل وهو يعمل تحت سطح الأرض بضع سنين قبل أن يبدأ بناء مسكنه ذي الخمسين طابق بالارتفاع فوق الأرض، وهكذا هو مشروع إفشاء السلام، ومشروع صناعة ثقافة إفشاء السلام ومشروع صناعة حياة قائمة على هذه الثقافة!!
ولذلك فما أسهل أن نجمع جماهيرنا على مظاهرة أو اعتصام أو مسيرة أو مهرجان، وما أسهل أن نلقي عليها المواعظ الدينية والمواعظ السياسية والمواعظ الاجتماعية، وما أسهل أن ندبج لها المقالات البليغة، وأن ننظم لها القصائد العصماء، وأن ننحت لها الشعارات الطروب، وأن نشنف آذانها بالغناء العذب والحداء الرخيم، ولكن يبقى السؤال: ثمَّ ماذا؟! ولا أرى جوابا على هذا السؤال إلا ما بادرت إلى تأسيسه لجان إفشاء السلام منذ عام، طامعة أن ترسي معالم مشروع يفشي فينا ثقافة إفشاء السلام بكل تبعاتها، وثقافة حب الصلح بكل دلالاتها، وثقافة رفض العنف ونبذه ولفظه من بيننا بكل إسقاطاتها، وهو ما يحتاج إلى فهم عميق لواقعنا، وثقة متينة بصوابية مشروع لجان إفشاء السلام، وعمل متواصل لا يتوقف، وصبر جميل لا يوهنه طول سنوات هذا المشروع، وأدب جميل يدفعنا أن نبتسم مشفقين على من يغمز بهذا المشروع، وقبل كل ذلك وبعد كل ذلك دوام التوكل على الله تعالى. وإن قيل في السابق: ما أبعد الثرى عن الثريا، فأنا أقول ما أبعد السطحية عن الإستراتيجية.