من طلب عظيمًا خاطر بعظيم
الشيخ كمال خطيب
ما أصدقها عبارة ومقولة الصحابي الجليل معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه: “من طلب عظيمًا خاطر بعظيم” وفيها يبيّن كيف تكون الموازنات عند أصحاب الهمم العالية والنفوس السامية التي لا تقبل بالدون ولا ترضى بسفاسف الأشياء، وإنما تسعى دائمًا للأسمى والأعلى والأفضل.
إنهم أصحاب النفوس التواقة في مصطلح عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه فيما حدّث به ناصحه ومستشاره رجاء بن حيوة الذي قال في وصف ذلك المشهد: أمَرني عُمرُ بن عبد العزيز أنْ أشتريَ لَه ثوبًا بِستّةِ دَراهم، فأتيتُه به فَجَسَّهُ، وقال: هو على ما أحبُّ لولا أنَّ فيه لِينًا. فبكى رجاء، فسأله عمر: ما يُبكيك؟ قال: أتيتُكَ وأنت أمير- قبل أن يُصبح الخليفة- بِثوبٍ بستمائةِ درهم، فَجَسَستَهُ، وقلتَ: هو على ما أحبُّ لولا أن فيه خُشونَة. وأتيتُكَ وأنتَ أميرُ المؤمنين، بثوبٍ بستةِ دراهم، فجسَستَه، وقلت: هو على ما أحب لولا أن فيه لِينًا! فقال عمر: يا رجاء، إنَّ لي نفسًا توّاقة، ما نالَت شيئًا قطّ إلا تاقَتْ إلى ما هو أعلى منه: تاقت نفسي إلى فاطمةَ بنت عبد الملك فتَزَّوَجتُها، وتاقت نفسي إلى الإمارة فَوليتُها، وتاقت نفسي إلى الخِلافة فأدركتُها، فنلت بذلك غايَةَ ما في الدنيا. فنَفْسي الآن تتُوقُ إلى غايَة ما في الآخرة، إلى الجنة، فأرجو أن أُدركَها إن شاء الله.
نعم إنها الجنة التي ينبغي على المسلم أن يجعلها سقف أمنياته وأعلى وأسمى تطلعاته والتي من أجلها لا بد أن يستخدم كل إمكانياته ومقدراته ولو وصل الأمر إلى حد أن يجعل نفسه وروحه الدنيوية ثمنًا ومهرًا لنيل الجنة الأخروية كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ…} آية 11 سورة التوبة. وكما قال سبحانه :{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيم ٍتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} آية 9-11 سورة الصف.
فمن طلب الجنة وسعى لنيلها وبلوغها وهذا هو الفوز العظيم كما وصفه ربنا سبحانه فلا بد أن يخاطر بعظيم، سواء كانت المخاطرة بالتنازل عن الدنيا أو بخوض مخاطرة الصراع مع شهواتها وبريقها ومغرياتها، وهي معركة شرسة، بل إنها أصعب وأخطر المعارك. إنه إذا أراد إنسان أن ينال متاعًا من الدنيا أو شهادة علمية أو منصبًا فإنه لا يتحقق له ذلك بالتمني، وإنما لا بد من البذل والتعب والسهر وكما قيل: “من طلب العلا سهر الليالي”، وكما قال أبو تمام:
تريدين إدراك المعالي رخيصة ولا بد دون الشهد من إبر النحل
فاذا كان من أجل الوصول إلى شهد وعسل الدنيا فلا بد من إبر ولسع النحل، فإنه ومن أجل الوصول إلى عسل الجنة فلا بد من احتمال لسع الدنيا وبريقها {مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ۖ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى….} آية 14 سورة محمد.
أعنّي على نفسك بكثرة السجود
وأمَّا أن يتصور البعض أنه بالإمكان الجمع بين نيل نعيم الدنيا ونعيم الآخرة، بين أمن الدنيا وأمن الآخرة، فإن هذا لا يمكن أن يتحقق أبدًا، لأنه من أجل بلوغ ونيل الآخرة ونعيمها وجنتها وهو شيء عظيم، فلا بد من المخاطرة بنعيم الدنيا ورغدها، وقد ورد في الحديث القدسي الجليل قول ربنا سبحانه: “وعزتي لا أجمع على عبدي خوفين ولا أمنين، فإذا أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة، وإذا أخافني في الدنيا أمنته يوم القيامة”.
إن من يقيم على معصية الله سبحانه ويُهزم في معركة الانتصار على النفس، بل وتكون نفسه تواقة للدنيا وليست تواقة للآخرة، فمن كان كذلك ويعيش في دنياه بشعور الأمن فإنه حتمًا سيعيش حالة الخوف والقلق والندم يوم القيامة ولسان حاله يقول: {رَبِّ ارْجِعُونِ*لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ…} آية 99 سورة المؤمنون، ولسان حاله يقول كما قال الله سبحانه: {أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَٰحَسْرَتَىٰ عَلَىٰ مَا فَرَّطتُ فِى جَنۢبِ ٱللَّهِ} آية 56 سورة الزمر. وعلى العكس من ذلك فإن من عاش في الدنيا بشعور الخوف من الله سبحانه ومراقبته في كل أحواله وكل تفكيره منشغل بيوم القيامة، فحاشى الله سبحانه أن ينساه يوم القيامة. فلأنه خاف الله في الدنيا فإنه سبحانه سوف يؤمنه في الآخرة يسمع قول الله سبحانه له: {يَٰعِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ ٱلْيَوْمَ وَلَآ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ} آية 68 سورة الزخرف.
إنها زفرات العبد الخائف من ربه سبحانه ومن أجرى صفقة بيع بينه وبين ربه سبحانه، إنه شاعر الأقصى المرحوم يوسف العظم يناجي ربه سبحانه وهو يعلن مخاطرته بالدنيا ليحقق مطلبه وبغيته بنيل الآخرة:
يا رب إني ضارع متبتل أفلا قبلت تضرعي
إن لم تكن لي في أساي فمن يكون إذن معي
يا رب في جوف الليالي كم ندمت وكم بكيت
ولكم رجوتك خاشعًا وإلى رحابك قد سعيت
قد كنت يوماً تائهًا واليوم يا رب وعيت
إن كنت تعرض جنة للبيع بالنفس اشتريت
أو كنت تدعوني إلهي للرجوع فقد أتيت
إن طلب الجنة ونيلها ومجالسة رسول الله ﷺ والأنس بلذة النظر إلى وجه الله الكريم فيها {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ*إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} آية 23 سورة القيامة، فإنما يتحقق بالمخاطرة والتنازل والتخفف من الدنيا وزخارفها وحطامها وعند ذلك فإنه يقينًا سيحقق مبتغاه وينال مطلبه {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأيَّامِ الْخَالِيَةِ} آية 24 سورة الحاقة.
إن من يكون مبتغاه ومطلبه شراء سيارة أو بناء بيت أو حتى السفر إلى بلاد يتنزه فيها ويتنعم، فإنه يضطر ولو مؤقتًا ليتنازل ويحرم نفسه من بعض الأشياء في سبيل توفير المال الذي به يحقق بغيته ومطلبه، فكيف بمن يريد ومن يكون مطلبه الجنة، فهل سينالها بلا ثمن؟ وقد قال ﷺ: “ألا إن سلعة الله غالية ، ألا إن سلعة الله الجنة”. وعن ربيعة بن كعب الأسلمي قال: كنت أبيت مع رسول الله ﷺ فأتيته بوضوئه وحاجته فقال لي: قل، فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة، قال: أوغير ذلك؟ قلت: هو ذاك، قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود”.
ولأن الجنة غالية وتستحق أن ندفع لأجلها الثمن والمهر الذي يليق بها، وهي لا تقاس أبدًا بعروس يشتهيها أحدهم فتشترط عليه مهرًا غير عادي وغير مسبوق، ولكن ولأنه اختارها فإنه على استعداد لدفع ذلك المهر فكيف وأن تكون هي الجنة، تلك العروس التي يود المسلم أن ينالها ويأنس بها.
من هو السعيد؟
وإن من الناس من ينظرون إلى العظيم الذي يطلبونه ويسعون لنيله وتحقيقه فيجدونه في السعادة الدنيوية التي يراها البعض في الغنى وكثرة المال، ويرى آخرون السعادة أنها في النفوذ والسلطة والجاه، ويرى آخرون السعادة أنها في توفر سبل العيش من غير جهد، ويراها آخرون أنها في شهوات يغبّ فيها غبًا. بينما رأى فضيلة المرحوم الدكتور يوسف القرضاوي السعادة في العقيدة الصافية توصله إلى رضوان الله سبحانه ثم إلى الجنة، فقال في قصيدته الشهيرة “السعادة” في ديوانه الشعري “نفحات ولفحات” حيث قال في بعض أبياتها:
قالوا السعادة في الغنى فأخو الثراء هو السعيد
الأصفر الرنان في كفيه يلوي كل جيد
قالوا : السعادة في النفوذ وسلطة الجاه العتيد
من كالأمير وكالوزير وكالمدير وكالعميد؟
قالوا السعادة في الغرام الحلو في خصر وجيد
في حب غانية لعوب في أماني في وعود
قالوا السعادة في السكون وفي الخمول وفي القعود
في العيش بين الأهل لا عيش المهاجر والطريد
قل للذي يبغي السعادة هل علمت من السعيد
إن السعادة أن تعيش لفكرة الحق التليد
هذي العقيدة للسعيد هي الأساس هي العمود
من عاش يحملها ويهتف باسمها فهو السعيد
للناس أرباب ولكن ربه رب وحيد
لا ينحني إلا له عند الركوع والسجود
وإذا أريد على الدنية قال لا أريد
الجنة أغلى من الدولة
وإذا كانت حكمة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه تقول “من طلب عظيمًا خاطر بعظيم” وهذه تكون مهمة الرجال العظماء، أمَّا غيرهم فإن مثلهم كمثل ذاك الذي قال لآخر: إن لي عندك حويجة – تصغير حاجة – فقال له الثاني: أطلبها عند رويجل -تصغير رجل-. أمَّا الرجال فقد وصفهم الله بقوله: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيهِ} آية 23 سورة الأحزاب، {.. يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ *رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ..} آية 36- 37 سورة النور.
إنَّ من الناس من يطلبون عظيمًا ليكون هذا العظيم هو إقامة دولة فلسطينية أو حتى إقامة دولة إسلامية، ولأجل ذلك فإنهم يخاطرون بعظيم ويبذلون أموالهم وأرواحهم ودماءهم في سبيل نيل ذلك المطلب وتحقيق ذلك المبتغى، وهنا فلا بد من التوضيح بل ووضع النقاط على الحروف: إن الدولة أيًا كانت وبالنسبة للمسلم فالأصل أن تكون دولة تحكم بشرع الله تعالى ليستطيع من خلالها أن يلتزم شرع الله في كل أمر والانتهاء عما نهى لتكون الدولة بذلك سبيله لتحقيق مبتغاه الأسمى وهو نيل رضى الله سبحانه ودخول جنته. وعليه فالدولة ليست غاية وإنما هي وسيلة، أما إذا أصبحت عند البعض غايه ولسان حال هؤلاء يقولون :أشوف القدس محررة وأموت، أشوف دولة فلسطين قامت وأموت، بينما هو قائم على المعاصي والحرام ومفرّط في أداء حقوق الله تعالى فماذا ستنفعه الدولة الفلسطينية أو الدولة الإسلامية ما دامت لم توصله إلى تحقيق الغاية الأسمى والمطلب الأعظم الذي هو الجنة.
مراسيل الدموع
إنه من أجل أن يتحقق لك مرادك ونيل مطلبك العظيم وهو رضى الله سبحانه والجنة، فإن أكثر الطرق إلى ذلك، وإن المرسال الذي يصل مباشرة إلى الله سبحانه، فإنما هي الدموع وإنما هو البكاء بين يدي خالقك سبحانه كما قال أبو علي الدقاق: “إذا بكى المذنبون فقد راسلوا الله”.
فمع كل بَذْلك وعطائك في سبيل الله، ومع كل سنوات عمرك أفنيتها في نصرة دين الله، ومع كل مال أنفقته قربى إلى الله سبحانه، مع كل تجارة تاجرت فيها مع الله سبحانه، مع كل معركة شرسة دارت بينك وبين نفسك الأمّارة بالسوء فانتصرت فيها واخترت أن تظل على استقامتك وعفتك وكل ذلك من أجل رضى ربك سبحانه، ومع كل عظيم خاطرت به لنيل ما هو أعظم منه، فاجعل كل ذلك ممهورًا بالدموع والبكاء والدعاء لله سبحانه فإنه أقصر الطرق للقبول والدخول على الرب الجليل سبحانه.
فاجعل زفراتك وأنين صدرك ودموع عينيك هي مراسيلك إلى الله سبحانه، وبيقين أنها ستصل وستنال مطلبك بمغفره الله ورضوانه وجنته.
رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة.
والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.