قراءة في السياقات السياسية لحكومة نتنياهو السادسة (1/4)
صالح لطفي- باحث ومحلل سياسي
هذه سلسلة من المقالات تروم التعرف على السياقات التي أوصلت المجتمع الإسرائيلي لاختيار مثل هذه الحكومة، وهي مسيرة بدأت اجرائيًا منذ صعود الليكود عام 1977 والدفع نحو أن تكون حاضنته الانتخابية، من اليهود الشرقيين، فيما بقي الحزب في جوهره، اشكنازي بامتياز، اللهم وقابل ذلك صعود الصهيونية الدينية التي أيضا في جوهرها اشكنازية إلا أنها رامت اختراق الشرائح اليهودية المختلفة، وهو ما وجد آذانًا صاغية عند عديد القوى اليهودية الدينية الشرقية (اليمينة على سبيل المثال لا الحصر). وفي ظل التطورات والتحوُّلات التي شهدها اليمين الإسرائيلي العلماني الليبرالي والمحافظ، واختراق التيار الديني له منذ اتفاقية أوسلو وإلى هذه اللحظات، فإننا وصلنا إلى مرحلة اليمين الديني، ولقد كان من ضمن المشهدية السياسية التي ارساها بيغن، وهي ذهاب من يفوز بالانتخابات إلى حائط البراق ومن ثمَّ الحصول على بركة بعض الحاخامات ممن يؤثرون بالسياسة الداخلية.
دأب الإعلام العالمي والعربي ومنه الفلسطيني بالخصوص، الإشارة إلى أنَّ هذه الحكومة السادسة التي شكَّلها نتنياهو بعد فوزه الساحق هي الأكثر تطرفًا في تاريخ الحكومات الإسرائيلية التي قامت منذ عام 1948 وذلك كونها تتكون من اليمين المحافظ (الليكود) والديني بشقيه الحاريدي والديني الصهيوني والقومي اليهودي.
قد يكون هذا التوصيف فيه نوع من الحقيقة إذا ما تعرضنا لطروحات الحكومة الجديدة المتعلقة بالشأن الداخلي الإسرائيلي، خاصة ما تعلق في علاقة الدين بالدولة والقضاء والهوية والتعليم، ولكن إذا ما تعرضنا لطروحات هذه الحكومة فيما يتعلق بالعلاقة مع الواقع الفلسطيني، فنحن عمليًا أمام حكومة مستمرة وماضية في غيها، وهذه الحكومة تنفّذ سياسات ورؤى نتنياهو اتجاه تبييض المستعمرات في الضفة الغربية وتحقيق مسائل الضم وتحجيم السلطة وتنفيذ سياسات بحق الكل الفلسطيني.
إنَّ قراءة تاريخية- سياسية للحكومات الإسرائيلية المتعاقبة منذ قيام إسرائيل وإلى هذه اللحظات، يبيِّن أن هذا التوصيف فيه مخاتلة كبيرة وخطيرة بحيث يمكن للإنسان البسيط أن يقع في روعه أنَّ هناك حكومات أفضل من هذه الحكومة، متناسين أنَّ ما يحكم هذه الحكومات هو سمت سياسي واضح المعالم والبيِّنات رَسمَهُ الآباء المؤسسون ولا تزال الحكومات المتعاقبة ماضية على هديه، خلاصته تحقيق مصلحة إسرائيل الدولة والشعب، والحفاظ على يهوديتها وأمنها، وما وجدنا حكومة قط تراجعت عن هذا الهدف، بل ثمة تعاضد وتداخل بين سياسات الأمن القومي الإسرائيلي بكل مكوناته، وتفرعاته والدبلوماسية والسياسات الخارجية التي تجترحها إقليميًا وعالميًا. ولذلك ارتبطت كافة العلاقات الخارجية الإسرائيلية ببارومتر أمنها الاستراتيجي، ولذلك وجدنا نتنياهو يُسارع فور تسلمه السلطة بالإعلان عن مضيه في التطبيع مع السعودية والتي سرعان ما قطعها راهنًا بن غفير وقلب الأمور ظهرًا على بطن.
حكومة نتنياهو ليست شاذة عن النسق الفاشي..
لن تكون حكومة نتنياهو السادسة شاذة عن القاعدة بل ستستمر في نفس السياسات ولكن بوتيرة أشد وأكثر وضوحًا، مع مفارقات تتعلق في السنن الحضارية للأمم والشعوب التي تأتي في المرحلة الثالثة من مراحل البناء الحضاري. ففي حين أسست الحركة الصهيونية العمالية إسرائيل وعاشت سنوات وعقودا من التقشف وشظف الحياة والعيش لتحقيق التمكين، جاء من بعد من خالط الجيل المؤسس واستفاد من الخيرات التي توفرت ماسكًا العصا من الوسط متجملًا بالخيرات التي توفرت وعاملًا على تعزيزها ومستفيدًا منها في الوقت ذاته، وها نحن أمام الجيل الثالث الذي يسعى للاستفادة من المُنجز دون أن يدفع ثمنًا، ولذلك فإنَّ هذه الحكومة التي يقودها التيار الديني بشقيه لم يقدم زعماؤه الكثير من أجل الدولة، مقارنة بمن سبقوهم من الحكام، فنتنياهو ذاته يتباهى بأخيه المقتول في عملية “عنتيبي” فيما لا يعرف شيء عن تاريخه الأمني والعسكري، سوى أنه خدم في كتيبة “متكال”، وفي الوقت ذاته يتولى مسؤولية الأمن الداخلي، التي سميت وزارة الامن القومي لبن غفير المُشاغب السياسي، والمدلل أمنيًا، ولم يخدم قط في العسكرية الإسرائيلية. وقس ذلك على كافة وزراء التيار الحاريدي.
قامت إسرائيل على اكتاف المنظومة الغربية التي اسقطت الخلافة الإسلامية العثمانية، واعتبرت إسرائيل رأس الحربة في إفشال أية وحدة عربية أو إسلامية، ومن ثمَّ كانت هذه الدولة وستظل تقوم بدورها الوظيفي في مسـألتي الصراع الحضاري والحرب على الإسلام، ونتنياهو- كمن سبقه- لا يختلف عنهم بشيء، اللهم في أيديولوجية ورثها من والده تتسم بالفوقية والعلو من جهة، وبرجماتية سياسية من جهة ثانية، ولذلك فإنَّ نتنياهو في هذه الحيثية يتماهى مع التيارين الديني والقومي، شركاؤه في الحكم، وفي الموقف من الإسلام والمسلمين والقضية الفلسطينية.
وعليه، فإنَّ كافة الإجراءات التي ستتخذ اتجاه القضية الفلسطينية والفلسطينيين في فلسطين التاريخية “المصنَّعة بريطانيًا” والمقدسات الإسلامية وفي مقدمتها المسجد الأقصى، ستكون أكثر تغولًا مما سبقها. وإن كان “بنيت” ابن المدرسة الصهيونية الدينية، قد باشر حربه على الفلسطينيين والمقدسات الإسلامية أثناء توليه رئاسة الحكومة، واستمر على نفس النهج شريكه لبيد، ما يعني أنَّ نتنياهو يكمل الطريق، فهو لا مبدع ولا منشئ.
حكومة نتنياهو ستمضي على نفس النهج والسياسة المستهدفة للوجود الفلسطيني ورموزه الوطنية والدينية بما في ذلك الداخل الفلسطيني، وقد شاهدنا الحملة الشعواء التي شنَّتها هذه الحكومة على المحرر الفلسطيني ابن قرية عارة كريم يونس، وفرض الشرطة القيود على الاحتفاء بتحرره، بل سارع وزراء في الحكومة إلى الإعلان عن عملهم على سحب الجنسية وطرده خارج أرضه ووطنه، وهذا من بيانات هذه المرحلة التي عمل على تعزيزها باستمرار نتنياهو نفسه. ولكن، لا تتوقف الأمور عند هذا الحد، فهذه الحكومة تستهدف بعضًا من الأسس التي قامت عليها هذه الدولة، ابتداءً من الثورة القانونية والقضائية الساعية لتمكين التوجه اليميني- الديني- الشعبوي، وانتهاءً بتحويل عديد الوظائف الوزارية إلى مكتسبات شخصية، تعزِّز من مكانة الوزراء أنفسهم. وإطلالة على اتفاقيات الأحزاب المشاركة مع الليكود، تؤكد أنَّ هذه الأحزاب تعمل على استغلال فترة وجودها لتحقيق مكتسبات قطاعية وفئوية وشخصية، وهذا من ميزات اليمين الفاشي في كل نظام أينما كان.