الدروس المستفادة من زيارة جنوب أفريقيا (6).. أهداف واستراتيجيات النضال.. أبرز أوجه الاختلاف
ساهر غزاوي
سيطر نظام الأبارتهايد (الفصل العنصري) في جنوب أفريقيا على الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وحكمت من خلاله الأقلية البيضاء الأغلبية من الأفارقة ذوي البشرة السوداء وفق منهج إقصائي يُحافظ على المصالح والبنيات التجارية والاقتصادية التي أقامها البيض في ثلاثة قرون من الاستعمار. واعتمد هذا النظام على ثلاث ركائز تستند إلى الإرث الأوروبي الاستعماري وفوقيته العنصرية وهي: قانون تصنيف السكان، وقانون الإسكان المنفصل، وقانون الأرض.
ولّدت ممارسات نظام الأبارتهايد الاستعمارية في جنوب أفريقيا، مقاومة على الفور، وتبنى حزب المؤتمر الوطني الإفريقي (ANC) في البداية أساليب غير عنيفة، ودعا إلى إضرابات وحملات مقاطعة وعصيان مدني، واختار هذا الحزب الذي كان يتزعمه نيلسون مانديلا العمل السري والكفاح المسلح. واعتمد النضال ضد نظام الأبارتهايد على أربعة أعمدة وهي: 1- النضال الشعبي الموحد داخل الدولة، 2- النظام المسلح، 3- التضامن الدولي، 4- الحشد الشعبي.
وفي نهاية عقد الثمانينيات من القرن المنصرم، كان نظام الأبارتهايد يحتضر جرّاء حصار دولي خانق، وتعبئة شعبية أفريقية وعالمية ضده جعلت أهم حلفائه (بريطانيا) عاجزة عن مساعدته. في الوقت ذاته، كان الطرفان على قناعة أنه لا أحد يستطيع التغلب على الآخر، ومع بوادر قرب سقوط المعسكر الشرقي وتنامي تعاطف الرأي العام الدولي مع شعب جنوب أفريقيا، اقتنع رئيس نظام الأبارتهايد فريديرك دوكليرك بحتمية المصالحة وإلغاء نظام الفصل العنصري نهائيًا، فباشر إجراء اتصالات سرية مع نلسون مانديلا في معتقله بجزيرة نيو آيلند.
بعد 27 عامًا في السجن، خرج مانديلا ورفاقه ليطلق مفاوضات سياسية علنية التي كانت قبل ذلك اتصالات سرية، تُوجت بإلغاء الفصل العنصري والدعوة لتنظيم انتخابات تعددية هي الأولى في تاريخ البلاد. وقد جرت الانتخابات في عام 1994 وفاز بها حزب المؤتمر الوطني الأفريقي (ANC) وزعيمه نيلسون مانديلا. والشيء بشيء يذكر، فقد سمعنا مقولة أثناء زيارتنا إلى جنوب أفريقيا- وهي مقولة قريبة جدًا للمنطق السياسي، أن مانديلا لم يقبل مسار المفاوضات والتسويات إلا بعد أن تهيأت نفسيته لقبول ذلك من خلال دراسة نفسيته جيدا من قِبل خبراء علم النفس الذين كانوا يقابلون مانديلا في السجن بين الفترة والأخرى.
أيضًا، فإن هذه المفاوضات التي أفضت في نهاية المطاف إلى التسوية والمصالحة التاريخية، لم ترضِ الجميع وخاصة أهالي الضحايا، حتى أنهم توقعوا أن تتم محاكمة المجرمين، لكن كان العفو العام الذي كان من أحد شروط المصالحة مفاجئًا جدا لهم. وفي السياق، فإن من جملة ما قالته السيدة ياسمين سوكا التي شغلت منصب المدير العام لمؤسسة حقوق الإنسان، وعملت في لجنة “الحقيقة والمصالحة” في جنوب إفريقيا من 1996-2001، إنَّ نحو 50 لجنة حقوق إنسان جابت الحارات والمدن لتسأل أهالي الضحايا عن مطالبهم بعد المصالحة، غير أن جوابهم كان: “إذا كان نيلسون مانديلا قضى 27 عامًا في السجن وفاوض وسامح ماذا تريدون منا؟؟”، وهكذا اقتنع أهالي الضحايا من موقف مانديلا ومسامحته ومصالحته التاريخية!!
ولعلها واحدة من المفارقات أن تبدأ الاتصالات السرية الإسرائيلية مع أطراف فلسطينية للبدء بتنفيذ مشاريع التسوية (التصفية) في ثمانينيات القرن المنصرم- وهي نفس الفترة التي بدأت فيها الاتصالات السرية مع نلسون مانديلا، وهي المرحلة التي سبقت توقيع اتفاقية “أوسلو” في عام 1993، وهي المرحلة ذاتها التي سبقت التسوية الجنوب أفريقية والمصالحة التاريخية التي توجت بانتخابات عام 1994، غير أن التسوية والمصالحة في الحالة الفلسطينية ولدت ميتة والنتائج على الأرض تؤكد ذلك، فالطرف الإسرائيلي ليس لديه رغبة حقيقية في الوصول إلى أية تسوية أو سلام حقيقي مع الفلسطينيين، كما يردد البعض، ومفهوم “إدارة الصراع” وليس حله، هو المهمين على الواقع وليس من المصلحة الإسرائيلية التوصل لأية حلول مقترحة من الجانب الفلسطيني تنهي الصراع، لأنَّ ذلك يصطدم مع الرؤية الأيدلوجية الصهيونية. علاوة على ذلك، فإن المجتمع الدولي الذي وقف إلى جانب إنهاء سياسة الفصل العنصري والوصول إلى تسوية في جنوب أفريقيا، وقف وما يزال متفرجًا وصامتًا حيال الحقوق المنهوبة والمشروعة لشعبنا الفلسطيني، بل ومدافعًا في الكثير من الحالات عن ممارسات الاحتلال الإسرائيلي.
ويبقى للتجارب التاريخية خصوصيتها، ويبقى أحد أبرز أوجه الاختلاف بين الحالتين الفلسطينية والجنوب الأفريقية، أن المقاومة الأفريقية أسست مطالبها على المساواة منذ البداية واعتبروا البيض جزءًا من أرضهم، وليس على أساس الانفصال والتحرر الكامل من المستعمر الأوربي كما هو في الحالة الفلسطينية. ورغم هذا الاختلاف إلا أن ما ميّز موقف المقاومة الجنوب أفريقية هو الثبات والوضوح في الهدف الإستراتيجي لإلغاء العنصرية وتحقيق المساواة الكاملة، واستطاعت قيادات المقاومة إدارة الصراع مع نظام الأبارتهايد وكذلك السيطرة على الصراعات الداخلية بين فصائل المقاومة بنجاح إلى حدّ كبير. على خلاف الموقف الفلسطيني المنقسم على نفسه وغير المتفق على برنامج موحد ولا على العمل معًا لتحقيقه أهدافه وإستراتيجياته، هذا عدا أن جزءا فلسطينيًا أصبح وكأنه متحالف مع الاحتلال ومنفذًا لمخططاته ومشاريعه.
وإن كان مسار المصالحة والتسوية في جنوب أفريقيا قد أنهى نظام الأبارتهايد، فإن مسار التسوية والمفاوضات في الحالة الفلسطينية قد ألحق الكوارث بالقضية الوطنية وحقوق الشعب الفلسطيني وأدخل المشروع الوطني الفلسطيني في أزمة حقيقية لا يزال شعبنا الفلسطيني يتجرع مرارة إسقاطاته وتداعيته السلبية إلى يومنا هذا.
ختامًا، فإن سلسلة المقالات القصيرة هذه كانت محاولة لتسليط الضوء، على أهم الدروس المستفادة من زيارة جنوب أفريقيا وعن الجولة الدراسية المكثفة التي نظمتها مؤسسة ميزان لحقوق الإنسان (الناصرة)، وقد لا نستطيع أن نوفي هذا الموضوع حقه، خاصة أن كل محور في كل مقالة، هو موضوع واسع بحد ذاته بحاجة للمزيد من التفاصيل ويمكن أن يكون دراسة مستفيضة تأخذ ذلك بالحسبان.