لماذا لا نقرأ؟!
ليلى غليون
يقول محمود العقاد: (القراءة وحدها هي التي تعطي الإنسان الواحد أكثر من حياة واحدة، لأنها تزيد هذه الحياة عمقًا وإن كانت لا تطيلها بمقدار الحساب، أهوى القراءة لأن عندي حياة واحدة في هذه الحياة، وحياة واحدة لا تكفيني). وقد قيل: (الأمة التي لا تقرأ تهرم وتموت قبل أوانها).
باعتقادي أنه من نافلة القول الخوض في أهمية القراءة ودورها في نهضة وتقدم الفرد والأمم، فلو لم تكن القراءة بهذه الأهمية القصوى لما كانت أولى انطلاقة هذا الدين من قاعدة فعل الأمر (إقرأ)، فلم تكن بالفعل الأمر صل أو صم أو حج أو زك أو غيرها من التكاليف الشرعية، بل جاءت بالتكليف ( إقرأ) تبيانًا أن إقرأ هي الحجر الأساس لكل نهضة ولكل رفعة ولكل عز، فإن لم تقرأ فكيف ستفهم دينك بالشكل الصحيح بعيدًا عن الجهل والخرافة والخزعبلات؟ وكيف ستؤدي تكاليفه بالشكل اللازم والمطلوب إن لم تكن على بصيرة؟
وإن لم تقرأ فكيف ستنهض بذاتك وتساهم في تقدم مجتمعك وتدفع بعجلته نحو الأمام؟ وكيف لأمة تبتغي العزة والريادة إن لم يتخذ أفرادها القراءة جسرًا للارتقاء نحو العلا؟
انظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم ماذا طلب فداءً لأسرى بدر، فقد طلب صلى الله عليه وسلم من كل أسير مشرك يريد فداء نفسه من الأسر أن يعلم عشرة من المسلمين القراءة والكتابة، لم يطلب المال رغم أن المسلمين في تلك الظروف الصعبة كانوا بأمس الحاجة للمال، بل بأمس الحاجة للاحتفاظ بالأسرى للضغط على قريش التي ناصبت الدين الجديد العداء وأعدت لمحاربته كل عدة وعتاد، ولكنه صلى الله عليه وسلم أراد أولًا وقبل كل شيء، أن يبني شخصية المسلم بناء سامقًا متينًا على أساس العلم والمعرفة لينطلق لنصرة هذا الدين بتعبئة إيمانية علمية معرفية مستمدة من معينها الصافي.
إنَّ الحديث عن أزمة القراءة وفتور العلاقة العاطفية بين الفرد وبين الكتاب في مجتمعاتنا قاطبة ليس بجديد ولا هو مفاجئ بل بات أمرًا مستهلكًا، فقد تراجع الكتاب خطوة بل خطوات وتراجع الشعور بأهميته، مما أشعل أزمة حقيقية مخيفة مع الكتاب.
لماذا لا نقرأ؟ سؤال مؤلم جدًا ومتكرر يعود على نفسه يعكس عمق الأزمة التي تجتاح مجتمعنا، فهو ليس سؤالًا يبحث عن جواب، بقدر ما هو معضلة تبحث عن حل.
لطالما أثرنا هذا السؤال، ولا زلنا نثيره ونبحث عن حلول، ولا تغيير حقيقي، ولطالما طرحنا حلولًا عاطفية على استحياء لم تكن أكثر من نصائح وتوجيهات حول أهمية القراءة (وهي مهمة)، أو بالافتخار بتاريخنا الطويل المضيء بأنوار العلم والمعرفة والتي انعكس ضياؤها على العالمين (وحق لنا أن نفتخر) ولكن المشكلة ظلت تراوح نفسها كما هي، لنعود لإثارتها من جديد ونكرر نفس السؤال: لماذا لا نقرأ؟! هل لأننا لا نملك الوقت؟ هل هي كثرة الانشغالات والهموم التي استنزفت الأعصاب؟ هل لأن أسعار الكتب عالية؟ هل هي وفرة وسائل اللهو والتسلية التي اجتاحت هذا العصر وعرضت الكتاب لمنافسة شديدة؟ هل هو الملل وعدم امتلاك النفس الطويل الذي أصبح عليه الإنسان في عصر السرعة؟ هل، وهل، وهل….ومئة هل، وألف سبب وعذر ممكن أن نقنع أنفسنا ونتذرع به ونجعله شماعة نعلق عليه جفاءنا للكتاب وهجرنا للقراءة.
لقد تعددت الأسباب التي تطفو على السطح، ولكن المشكلة في اعتقادي تختبئ في مكان آخر.
فهذه الأسباب وغيرها من الأسباب العديدة ، التي يتسلح بها العديد منا، قد تؤثر فعلًا على علاقتنا بالكتاب ولكنها تظل أعذارًا وحججًا لعزوفنا عن المطالعة والقراءة، ولنكن صادقين مع أنفسنا، ولا نحاول تغطية الشمس بوشاح، لأن ذلك من العبث بل هو الهروب من الواقع الذي يصيح بأعلى صوته ويقول أن السبب الحقيقي أننا لا نملك الرغبة الحقيقية أصلًا للقراءة، وأن القراءة أصبحت في أواخر سلم اهتمامنا وذلك لقلة الإحساس والشعور بأهميتها وأثرها على الفرد والمجتمع، ولو وجدت هذه الرغبة ولو وجد ذاك الإحساس، لتغير الحال إلى الأفضل، ولكان الإقبال على الكتاب كحال الإقبال على الأشياء التي نتهافت عليها ولما وجدت أصلًا كل هذه الأعذار.
فليقف كل واحد منا مع نفسه وقفة صدق، فإذا كان عذره كثرة الانشغالات وعدم امتلاك الوقت، فكم مرة في اليوم بل في الساعة يتناول هاتفه ليتصفح عشرات الرسائل والصفحات على منصات التواصل الاجتماعي وعلى اختلافها يتصفحها بشغف وبرغبة وإقبال منقطع النظير يكفي لقراءة نصف كتاب من الحجم المتوسط لو أراد ذلك، وكم هي الأوقات المهدورة التي يقضيها بما سفه وما تفه تكفي لقراءة صفحات وصفحات لو امتلك الرغبة في ذلك. فالحقيقة المؤلمة أننا هجرنا الكتاب ولا نريد أن نقرأ وليست المشكلة في قلة الوقت، نعم لا نريد أن نقرأ ولو أهدي لنا الكتاب أو أصبح بالمجان.
ولكن ورغم عمق الأزمة ووجع الحقيقة، تبقى هناك ثلة ولو كانت قليلة تربطها مع الكتاب علاقة حب قوية لا تبرحها، تحتضنه بين يديها وتستشعر بروحه تسري في شوارع ذهنها وطرقات أحاسيسها، تنتشي من رائحة ورقه وتطرب من صوت تقلب صفحاته، اشتياقها إليه كاشتياق الأرض العطشى للماء، وكحاجة الإنسان للهواء والمريض للدواء، أدركت أنه لا سبيل للعودة لمجد فقدناه، ولا لعز ملكناه، ولا لرقي خسرناه، ولا لسيادة كنا عليها، حتى يعود الكتاب وتعود (إقرأ) من جديد منطلقًا يتصدر قمة اهتمامنا ووعينا.