الدروس المستفادة من زيارة جنوب أفريقيا (2).. الاستعمار هو الاستعمار

ساهر غزاوي

في الحديث عن جولتنا الدراسية المكثفة في جنوب أفريقيا التي نظمتها مؤسسة ميزان لحقوق الإنسان (الناصرة)، التي شملت محاضرات وورشات عمل بمواضيع مختلفة تهدف إلى الاطلاع على تجربة جنوب أفريقيا في مناهضة نظام الأبارتهايد (الفصل العنصري)، فإن الدرس الأول المستفاد هو أن “الاستعمار هو الاستعمار”، لذا فمن الضرورة بمكان الحديث عن حالتي الاستعمار في جنوب أفريقيا وفي فلسطين لما لهما من أوجه تشابه وتقارب كثيرة، هذا عدا أن الاستعمار يبقى استعمارًا على الرغم من اختلاف ظروف المكان والزمان.

الاستعمار هو ظاهرة تهدف إلى سيطرة دولة قوية على دولة ضعيفة وبسط نفوذها من أجل استغلال خيراتها في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وهي بالتالي نهب وسلب لمعظم ثروات البلاد المستعمرة، فضلًا عن تحطيم كرامة شعوب تلك البلاد وتدمير تراثها الحضاري والثقافي، وفرض ثقافة الاستعمار على أنها الثقافة الوحيدة القادرة على نقل البلاد المستعمرة إلى مرحلة الحضارة، لا سيّما وأنه في كلتا الحالتين، رأى كل من نظام التفرقة العنصرية في جنوب أفريقيا والحركة الصهيونية نفسيهما على أنهم “صفوة شعوب الأرض” أو “شعب الله المختار”، إلى جانب توظيف المفاهيم الإنجيلية والتوراتية لخدمة أطماعهم في الأرض بحيث آمنوا بأن الأرض كانت لهم وأنها الآن “أرض بلا شعب لشعبٍ بلا أرض”، وهذا أيضًا يتوافق تمامًا مع مقولة أن “ظهور الاستعمار البريطاني لأفريقيا تزامن مع عصر العنصرية العلمية، واعتقد البريطانيون أنه بسبب امتلاكهم لأسلحة متفوقة ومن ثم كانوا أكثر تقدمًا من الناحية التكنولوجية من الأفارقة، فإن لديهم الحق في استعمار واستغلال موارد الأفارقة باسم الترويج للحضارة”.

بدأ الاستعمار الأوربي الغربي لجنوب أفريقيا في العام 1652، عندما قررت شركة الهند الشرقية، إقامة أول مستوطنة لها في رأس الرجاء الصالح، وسرعان ما أخذ المستعمرون البيض الأوائل الذين أتوا في المرحلة الأولى من هولندا وألمانيا بالتوسع نحو الشمال، حيث بدأوا باستغلال الأفارقة ذوي البشرة السوداء (السكان الأصليين) في مزارعهم ولاحقًا عملوا على طردهم من أراضيهم والاستيلاء على مزارعهم، وفي القرن الثامن عشر تغير ميزان القوى لصالح بريطانيا وفرنسا، واضطرت هولندا للتخلي عن مستعمراتها في القارة الإفريقية لهما. وفي أواخر القرن التاسع عشر، تم اكتشاف الماس والذهب في جنوب أفريقيا، ما أدى إلى زيادة المهاجرين الأوروبيين نحو المنطقة، لكن سرعان ما بدأت الحروب التي انتصرت فيها البريطانيون، وهو ما جعل جميع الجمهوريات جزءًا من الإمبراطورية البريطانية، وأسس البريطانيون حكومة للتغلب على مشكلات الحدود، حيث عقدت اتفاقيات مع المناطق المجاورة.

في الإطار التاريخي، يطول الحديث والمجال لا يتسع، لكن لا بد من الإشارة إلى أنه في بدايات القرن العشرين، بسط الاستعمار البريطاني في جنوب أفريقيا نفوذه من أجل استغلال خيرات البلاد في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وأنشأ ما أسماه في عام 1910 “اتحاد جنوب أفريقيا” تحت السيادة البريطانية، وهو تلاعب بريطاني سياسي في ظاهره “استقلال” وفي باطنه وضع أسس للفصل العنصري (الأبارتهايد) الذي بزغ كنظام في العام 1948 (وهو نفس عام نكبة الشعب الفلسطيني، وهو من الأمور التي تسترعي الانتباه وهذا ما سنتحدث عنه في المقالة القادمة بمشيئة الله)، وأصبحت المستعمرات محافظات أو مقاطعات في الاتحاد الجديد، وقد حُرم الأفارقة ذوي البشرة السوداء من حقوقهم المشروعة في كل المقاطعات، عدا مقاطعة الكاب.

عمليًا، فإن الأبارتهايد في جنوب أفريقيا، تعود جذور فكرته لعام 1913- أي بعد “استقلال” جنوب أفريقيا بثلاث سنوات (التلاعب السياسي)-، حيث أقرّ في تلك الفترة ما يعرف بقانون الأراضي “قانون أراضي السكان الأصليين” الذي يعتبر أول قوانين التمييز العنصري، فقد نصّ القانون على إجبار الأفارقة ذوي البشرة السوداء على العيش في محميات منفصلة عن البيض وحرمهم من بعض حقوق العمل.

هذه المحميات لم تشكل سوى 7 بالمئة من أراضي البلاد الزراعية، ومنع القانون الجديد الأفارقة ذوي البشرة السوداء من امتلاك أراضٍ في مناطق البيض- كما أسلفنا- أو السكن في هذه المناطق دون إثبات توظيف لدى شخص أبيض، على الرغم من أن الأفارقة ذوي البشرة السوداء شكلوا حوالي ثلثي السكان.. أليس هذا مشابهًا إلى حد كبير (إن لم يكن نسخة طبق الأصل) عن ما فعله الاستعمار البريطاني في فلسطين قبل نكبة عام 1948 بمساعدتهم لليهود بشراء الأراضي في فلسطين وبناء مستعمرات يهودية عليها، من أجل قطع خط التواصل بين آسيا وأفريقيا ومنع أي تحركات عسكرية مستقبلًا، ولضمان سير المصالح البريطانية الاقتصادية على حساب الفلسطينيين أصحاب الأرض الأصليين!!